جان دارك
1412-1431
تدور الأحداث الجسام في حياة جان دارك قرب نهاية حرب المائة عام، التي استمرت منذ 1337 حتى 1453، والتي انتهت بخسارة بريطانيا لكل أملاكها في فرنسا، وباتحاد الولايات الفرنسية المتعددة تحت سلطة الملك تشارلز السابع. ولدت جان في عام 1412 م في قرية دومرمي (التي كانت جزءاً من برجاندي، الولاية المستقلة في ذلك الحين من السلطة الفرنسية). وقد كان والداها من المزارعين المتوسطي الحال. كانت الفتاة في الثالثة عشر من العمر حين سمعت الأصوات الملائكية لأول مرة، وحين صارت في السابعة عشر ذهبت، بناء على نصيحتهم، الى قائد القوة الفرنسية في فوسولورو، وحصلت منه على مرافقين لرؤية الابن البكر للملك الفرنسي. قدم لها كذلك الجنود والسلاح الذي سمح لها بالزحف على اورليينز التي كان الجيش البريطاني قد قام باحتلالها. تحت قيادتها، أحرز الفرنسيون انتصارات هامة ونجحت في تحقيق الرسالة التي كلفتها بها الأصوات: فقادت تشارلز الى ريمز وشاهدت تتويجه هنالك كملك لفرنسا.
بعد ذلك، أطاعت نصيحة قواد جيشها وزحفت على باريس. ولكنها، أثناء حصار مدينة كامبين، انفصلت عن جنودها أسرها البرجانديون، عملاء الاستعمار البريطاني. وقد اقتادوها الى ريون وحوكمت في محكمة الكنيسة بتهمة السحر. وقد كان أهم من اشتركوا في المحاكمة واتخذوا القرار بشأنها علماء جامعة باريس التي تحكم بها الإنجليز آنذاك. في الثلاثين من مايو عام 1431 قامت السلطات بتقييد جان دارك الى خشبة وحرقها.
طرد الإنجليز وتوحيد فرنسا كان لدرجة كبيرة نتيجة للدافع القومي الذي خلقته جان في نفوس الناس. في عام 1450 ، قرر الملك تشارلز إعادة محاكمتها، وفي عام 1555، كان هنالك محاكمة أخرى أعلنت براءتها من كل التهم الموجهة أليها. في عام 1920، صارت رسميا من بطلات فرنسا.
يمكن اعتبار اعترافات جان دارك رد فعل نسائي على مذكرات القديس أوجستن. فبالرغم من فرق ألف عام بين أول مذكرات كتبها رجل، وأول المذكرات النسائية، يلاحظ القارئ العلاقة الواضحة: ان كانت جان، مثل أوجستن، قد بنت شخصيتها على أساس العقيدة التي أمنت بها، فهي تدعي وتؤمن بان الملائكة يتحدثون معها، وتحصل بهذه الطريقة على نوع من السلطة التي سيصعب لامرأة خلال تلك الفترة الوصول لها. بل أنها ترتدي ثياب الرجال وتقود الجيوش وتحارب وتنتصر في معارك كثيرة. كل هذا سيضعها في صفوف البطلات المحاربات في سبيل حقوق المرأة-التي لا يؤمن أوجستن بها بسبب تعاليم والدته وشخصيتها، كما رأينا.
اعترافات جان دارك تبرز كذلك الجانب القاتم في أدب المذكرات. فالاعتراف هنا إجباري، وهو عبارة عن محاولة يائسة للدفاع عن النفس التي تواجه اتهامات خطيرة أودت فعلا بحياتها في نهاية المطاف.
الصفحات المقبلة مختارة من كتاب جون دارك: صورة ذاتية ل: لوليارد تراسك الذي كان مرجعه الأساسي سجلات المحاكمة الأولى. كلمات جان تقص قصة طفولتها، أما الباقي، فيعتمد على لقاءاتها مع روبرت دبودريكورت والأمير الفرنسي، وما قالته للمحققين أثناء المحاكمة.[1]
"ليس لدي المزيد من الأقوال"
مختارات من اعترافات جان دارك
بين أفراد أسرتي، كان اسمي جنيت. منذ مجيئي الى فرنسا، سموني جان.
ولدت في قرية-دومريمي. اسم أبى كان جون دارك، وأمي كانت تدعى ايزابيل.
طوال فترة إقامتي في القرية، عملت في قضاء الواجبات المنزلية، وما ذهبت لرعي الخراف وما نملكه من حيوانات أخرى ألا فيما ندر.
تعلمت في الصغر الخياطة والغزل، ولا أخشى منافسة أي امرأة في ريون في هذا المجال.
اما دراستي، فقد تعلمت عقيدتي والتصرفات الصحيحة للطفلة المهذبة بطريقة حازمة وفي الوقت المناسب.
من أمي تعلمت "أبانا الذي في السماوات،" و"تحية لمريم،" و"اؤمن،" وكل ما عرفته عن العقيدة جاء منها، لا من اي إنسان آخر.
مرة كل عام اعترفت بخطاياي الى القسيس، أما حين لم يكن قادرا فلاخر وُهب ذات الصلاحيات. ولقد شربت الماء المقدس وتناولت الخبز السماوي في عيد الفصح.
في مدخل قريتي هنالك شجرة تدعى شجرة السيدات، والبعض يسمونها شجرة الجنيات،[2]وبجوارها ينبوع ماء. سمعت أن المرضى بالحمى كانوا يشربون من الينبوع او يجلبون الماء منه للاستشفاء. بل أنني شاهدتهم يفعلون هذا وان كنت لا اعرف ان كان ما فعلوه قد ساهم فعلا في شفائهم. لقد سمعت كذلك ان المريض ساعة الشفاء كان يدور حول الشجرة عدة مرات للتعبير عن الشكر. انها شجرة ضخمة عتيقة، وجل خشب الزان الذي نستخدمه في الاحتفالات يأتي منها.
أحيانا كنت أتمشى تحت الشجرة واضع قلائد الورود على أغصانها لتمجيد العذراء الحميدة.
لقد سمعت ممن يكبرني سنا ان الجنيات كن يلتقين تحت أغصان الشجرة، بل قالت جدتي أنها شاهدتهن هنالك، لكني لا اعرف اذا كان هذا الحديث صحيحا. فأنا لم أشاهد الجنيات ابدا تحت الشجرة. رأيت بنات القرية يعلقن عقود الورد على أغصانها عدة مرات، وأحيانا علقت عنقودي مع غيره من العناقيد ثم أخذته معي ساعة الرحيل، وأحيان أخرى تركته في مكانه.
لا اذكر إذا كنت قد رقصت تحت الشجرة مع بقية الفتيات بعد وصولي لسن التمييز. قد أكون رقصت مرة او مرتين، ولكني غنيت اكثر مما رقصت.
حين كنت في الثالثة عشرة من العمر، تحدثت القديسات معي لمساعدتي في السيطرة على نفسي-لاني كنت قد تجاهلت واجب الصوم في اليوم السابق. سمعت الصوت يأتي عن يميني قريبا من الكنيسة ساعة الظهيرة في فصل الصيف، وكنت آنذاك في حديقة منزلنا. كان الضوء يتوهج حولي في كل مكان وأحسست برعب شديد.
أقسمت آنذاك ان احتفظ بعذارتي طوال الوقت الذي سيُفرح الخالق.
شاهدته عدة مرات قبل ان اعرف انه القديس مايكل. بعد ذلك، علمني واراني ما أقنعني بأنه فعلا القديس.
لم يكن وحيدا، بل أحاطت به الملائكة السماوية. شاهدتهم بأم عيني كما أراك الآن. حين تركوني وذهبوا، بكيت وتمنيت أن يأخذوني معهم. قبلت الأرض حيث وقفوا لتبجيلهم.
قال القديس مايكل انه يجدر بي ان أكون طفلة رزينة، وان الخالق سيعاونني. علمني كيف أتصرف بطريقة صحيحة وان اذهب دوما للكنيسة. ابلغني انه لابد لي من الرحيل الى فرنسا.
قال لي أن القديسة كاثرين والقديسة مارجريتا سيأتيان لي، وانه لابد لي من إطاعة كل ما يقولاه. فهما قد اختيرتا لتدريبي على المسئولية التي أنيط بي حملها، ولذلك يجب ان أؤمن بصحة ما يقولاه، لانها أوامر سيد الكون.
حدثني عن الأوضاع المأساوية في المملكة الفرنسية واخبرني انه يتوجب على الذهاب لمساعدة ملكها.
كللت القديستين مارجريت وكاثرين رأسيهما بتاجين من الجواهر الثمينة. كانت طريقتهما في الكلام سلسة وواضحة، وتمتعتا برخامة الصوت وعذوبته.
الاسم الذي نادياني به كان جان العذراء، طفلة الرب.
اخبراني ان الملك سيعود لعرشه بالرغم من سوط أعدائه وتسلطهم في الأرض. وعداني بأنهما سيأخذانني الى جنات الخلد لان هذا كان أغلى ما طلبت منهما.
مثنا وثلاث كل أسبوع طلبتا مني السفر الى فرنسا، وأبلغتاني انني سافك الحصار البريطاني عن مدينة اورليينز، وانه يجدر بي السفر الى فرسولورز، بالتحديد الى روبوت دبورديكورت، قائد المدينة، الذي سيقدم لي رجالا يأتون معي.
أجبتهما قائلة أنني فتاة فقيرة لا اعرف شيئا عن ركوب الخيل وفنون الحرب.
أبلغتني أمي ان أبى قد حلم اكثر من مرة بأنني سأهرب بعيدا مع مجموعة من الجنود. قالت لي انه تحدث الى اخوتي منذرا: "لو آمنت بان هذه الأحلام ستتحقق لطلبت منكم إغراقها، واذا رفضتم فسأغرقها بنفسي." بسبب هذه الأحلام، قام والديّ بمراقبتي دائما وحدا من حريتي واضطهداني. مع ذلك أطعتهما في كل شيء. ولكن، حين طلب الخالق مني الذهاب ما كان لي بد من إطاعة الأمر. وما دام الخالق قد أمر، فكلمات مائة أب وأم، حتى وان كنت بنت ملك، ما كانت لتمنعني. وهكذا فضل الخالق ان يحقق مشيئته عبر عذراء ريفية بسيطة سترد أعداء الملك على أعقابهم.
ذهبت الى عمي أخبرته انني ارغب في زيارته لمدة أسبوع، واثناء تلك الفترة، أبلغته انه لابد لي من الذهاب الى فوسولورز، فأخذني الى ذلك المكان.
هناك عرفت روبرت ديودريكورت، مع أنني لم أره من قبل. اخبرني الصوت انه من انشد.
أعلمته انه لابد لي من الذهاب لفرنسا، قائلة ما يلي: "مملكة فرنسا ليست ملكا لابن الملك، بل لحاكم السماوات والأرض. ولكن الخالق قدر ان يصير الابن الابكر للملك السابق ملكا ويحكم البلاد. لذلك سيتوج برغم سوط أعدائه وقسوتهم. وانا من سيقوده الى العرش."
مرتين رفض روبرت ديودريكورت الاستماع لما قلته.
ثم تحدثت الى مساعده، جون دميتر، قائلة:
"جئت لهذه المدينة لاسئل روبرت ديودريكورت لاخذي الى الملك. ولكن قلبه غلظ تجاهي، أصابت أذنه غشاوة منعته من سماع أقوالي. لابد ان أكون مع الملك قبل فترة الصوم، حتى وان كان طول الطريق قد اوجع قدمي ألم ركبتي. لا يوجد في العالم ملك، ولا أميرة، او دوق، يستطيع تحرير مملكة فرنسا، ولا إنقاذ لها سواي.
افضل كثيراً البقاء بجوار أمي المسكينة ومساعدتها على الخياطة، لان مثل هذه المسئولية الجسيمة ليست ما أعدتني أسرتي له. ولكن لابد لي من الذهاب، ولابد ان استمر حتى النهاية لان الخالق يريد هذا.
افضل ان اذهب الآن قبل الغد وغدا قبل الأسبوع المقبل."
هذه المرة هداه الله فاستمع الى أعطاني بعض الرجال لحراستي، كما قال لي الصوت انه سيفعل. ساعة الذهاب من فوسولورز تنكرت في زي رجل. حين حانت لحظة الرحيل، قال لي روبرت ديودريكورت: "اذهبي، وليكن ما يكون." أعطاني سيفا وما كان معي اي سلاح آخر. ورافقني فارس وحامل أسلحته، وأربعة خدم.
وصلت لكينون ساعة الظهيرة ونزلت في أحد فنادقها. بعد العشاء، ذهبت لرؤية ابن الملك في قلعته وحين دخلتها عرفته من بين الآخرين لان الصوت دلني عليه. ثم أبلغته أنني سأذهب لمحاربة الإنجليز:
"اجلب لك أخباراً من الخالق الذي سيرجع لك مملكتك بحيث يتم تتويجك في ريمز، وتطرد أعدائك من عقر دارك. ما أنا اكثر من رسولة للخالق، فابعثني بشجاعة للعمل، وسافك الحصار عن اورلينز."
لمدة ثلاثة أسابيع، اختبرني العلماء من كنيون وبواتيرز، واستلم الملك دلالة من المتعالي العظيم تثبت صدق ما قلت قبل ان يصدقني.
أخبرتهم اني لا اعرف الالف من الباء.[3]
جلبني ملك السماوات والأرض لفك الحصار عن اورلينز حتى يصل الابن البكر للملك الى ريمز ويتوج هناك.
أخبرتهم كذلك أنني لن أبقى اكثر من عام بكثير، ولذلك لابد من العمل بسرعة. ذكرتهم بان هنالك أربع واجبات فُرضت على: طرد الإنجليز، تتويج الأمير، إنقاذ حاكم اورلينز من أيدي الإنجليز، وتحريرها.
وهبني الملك اثنا عشر ألف رجل فقدتهم الى اورلينز. من هناك، بعثت الرسالة التالية الى من كتب على محاربتهم:
"باسم المسيح ومريم العذراء
"الى ملك بريطانيا، دوق بدفورد، يامن تدعي لنفسك حق الوصاية على مملكة فرنسا، والآخرين،
"وليام دي لابول، دوق سافولك، وجون، دوق تابولت، وثوماس، سيد سكيلز، يامن تدعون
أنفسكم قواد جيش الملك، احترموا أوامر من يملك السماوات والأرض، وسلموا العذراء، مبعوثة
الرب، مفاتيح المدن العظيمة التي احتللتموها وعثتم فيها فسادا. مبعوثة الخالق لعون الدم الملكي
ترغب بالسلام لو سلمتم لقضاء العدالة وتخليتم عن فرنسا ودفعتم ثمن ما سلبتم.
"أما انتم، يا جيوش الرجال، نبلاء وفلاحين، يا من تقفون أمام مدينة اورلينز، اذهبوا الى دياركم باسم الرب،
وان لم تفعلوا، فستصلكم أخباري حين آتى لتدمير جيوشكم دمارا تشيب لرؤيته الولدان.
"ياملك بريطانيا، إذا لم تفعل ما اطلب، فاعرف اني أقود جيشا جرارا سيلاحق رجالك ويجبرهم على
الرحيل من أي قطعة ارض فرنسية سواء ارغبوا بذلك أم لم يرغبوا. وان لم يستسلموا ويطيعوا، فسامر
بقتلهم جميعا.
"بعثتي المتعالي ملك السماوات والأرض لطردك من أراضى فرنسا التي انتهكت سيادتها. أما لو أطعتني،
فسأرحم رجالك واسمح لهم بالذهاب الى ديارهم.
"لا تفكر بطريقة أخرى: فأنت لن تأخذ فرنسا من مالك السماوات والأرض، بل ستذهب المملكة الى الملك
تشارلز ألاحق بالورث. فهذه هي إرادة مالك الكون التي كشفها لعذرائه. وفي يوم قريب، سيدخل باريس
قائدا جيشا جرارا لا قبل لك بمواجهته.
"إذا لم تصدق الأنباء من الخالق المتعالي والعذراء، فأينما نراك، هناك ستكون ضرباتنا، وسنشغلها حربا
ضروساً لم تر فرنسا مثلها منذ ألف عام، اللهم الا اذا خشيت جبروت خالقك ومارست العدالة. من
المؤكد انك تعرف ان ملك السماوات سيهب من قوته للعذراء ما لا طاقة لك به. وحينما تهطل عليكم
الضربات من كل صوب، سترى اي حق سيكون الأفضل في عين الرب.
"تصلي العذراء وتتذرع لك ألا تجلب على جيشك ونفسك الدمار، يادوق بدفورد. إذا فعلت ما تقتضيه
العدالة، سيمكنك المجيء اليها والتعاون مع الشعب الفرنسي الذي سيصنع اعظم الأعمال لديانة المسيح. اما
اذا لم تفعل، فاستعد لمواجهة المخاطر سريعا.
كتبت هذه الرسالة في يوم الثلاثاء من زمن الصيام الكبير.
حين حاصرنا مدينة اورلينز قلت لمساعدي: "ايها الطفل التعيس، أبلغتني ان الدم الفرنسي الطاهر قد هطل على الأرض. فأين سلاحي؟ الى الخيل! الى الخيل!"
وحين احتللنا الأبراج التي أنيط بها حماية المدينة كنت أول من وضع السلم للتسلق، وبينما كنت أتتسلقه، أصبت في حنجرتي بسهم أراد أعدائي به نهايتي. ولكن القديسة كاثرين قدمت لي المواساة والعون. ولم اكف عن عملي، فامتطيت الخيل بعد سقوطي وعدت للمعركة. قلت للجنود، "كونوا شجعانا ولا تتراجعوا. بعد قليل سيكون النصر لكم. تطلعوا، وحينما ترون الريح تعصف بسارتي بحوار الأسوار، ستكون المدينة لنا. هيا، هيا بنا، المدينة لنا."
صرخت بالقائد البريطاني حين اقتربت منه: "جلادسديل، ياجلاسديل، دعيتني بالعاهرة. انا أشفق على روحك وارواح رجالك ممن لا يرحم الظالم. استسلم الآن لمالك الكون."
بعد المعركة، قلت لمن عرضوا السحر لمعالجتي: "افضل الموت على ارتكاب الخطيئة."
أخيراً، حينما انسحب الإنجليز من المدينة، في الخامس من أيار، قلت لرجالي: "باسم الله القادر على كل شيء، هاهم يذهبون. دعهم يرحلون. لنذهب للصلاة ولشكر الرب. فلا يحق لنا متابعتهم في يوم الأحد. لا تلحقوا بهم اي ضرر. كل ما أريده هو رحيلهم."
في نيسان، قالت لي الأصوات أنني سأؤسر قبل يوم القديس يوحنا، وانه لابد من هذا، ولذلك لا يجدر بي ان أخاف بل ان اقبل ما سيحدث لي، لان خالقي سيعاونني. توسلت إليهم طالبة الموت بدلا من معاناة آلام السجن.
قلت لقسيس مدينة راينمز يوم تتويج الملك: "هذا شعب عظيم. لم أر شعباً آخر سعيداً لهذه الدرجة بوصول صاحب الجلالة. وأتمني ان يكون قدري سعيدا حين تنتهي أيامي وادفن في هذا المكان،" فأجابني "واين تتوقعين ان تموتي ياجان؟" فأجبته " أينما يفضل خالقي، لأنني لا اعرف الساعة او الفصل او المكان. وأتمنى ان يسعد الخالق برجوعي الان والتخلي عن السلاح حتى أستطيع خدمة والدي ورعاية أغنامهم مع أمي واخواني الذين سيسعدون برؤيتي."
ذهبت الى كامبين في مهمة سرية قبيل الفجر ودخلت المدينة بدون علم أعدائي. مساء ذلك اليوم، قمت بالهجوم الذي قُبض على خلاله.
كان معي سيف أخذته من رجل من برجاندي. استخدمته لانه كان سيفا جيدا للكر والفر.
لم اكن اعرف انهم سيقبضون على في ذلك اليوم.
عبرت الأبراج وخطوط الدفاع وحاربت مع رجالي ضد قوات السيد لوكسمبرج. ودفعتهم للتراجع مرتين، مرة الى معسكرهم والأخرى حتى منتصف الطريق. ثم فصلني الإنجليز عن رجالي وتقدموا بيني وبين معسكرنا. وهكذا اضطر رجالي للتراجع وقبض الأعداء علي.
المحاكمة: حين واجهت القضاة لاول مرة في القاعة الملكية في ريون يوم الأربعاء الواحد والعشرون من شباط، قلت لهم: "بخصوص أبى وأمي وكل ما فعلت منذ هجرتهم، اقسم على قول الحق. أما ما كشفه لي الخالق، فلا أحد يعرفه سوى الملك تشارلز ولن اقدم لكم هذه المعلومات حتى لو ذبحتموني. بعد أسبوع سأعرف ما سيسمح الخالق لي بمصارحتكم به.
"اعترض على جلبي مثقلة بالأصفاد والحديد.
اقر بأنني أتوق لما يسمح لكل أسير ان يحلم به: الفرار."
يوم الثلاثاء، السابع والعشرون من شباط، حققوا معي مرة أخرى.
قال لي المحقق: "كيف أحوالك منذ يوم السبت؟"
-"تستطيع جيدا رؤية حالي. لقد استحملت بقدر استطاعتي على الاحتمال."
-"هل سمعت الأصوات التي تأتى لك منذ يوم السبت؟"
-"نعم، واكثر من مرة."
-"هل سمعتيهم في هذه الغرفة منذ يوم السبت؟"
-"نعم، ولكن ليس لهذا اي علاقة بمحاكمتكم لي. كل ما طلبوه مني كان التشجع وعدم الخوف. سمحوا لي بالإجابة على بعض أسئلتكم. لو قدمت لكم المعلومات التي حُضر علي تقديمها، فسأفقد رعاية الأصوات لي. اما حين يسمح لي الخالق العظيم بالكلام، فسأبوح بكل ما اعرف لانه سيكون معي ويحميني منكم.
مصدر الأصوات التي اسمعها هو القديستان كاثرين ومارجريت."
-"من منهما بدا لك أولا؟"
-"لا أتذكر الجواب على هذا السؤال، ولكنه موجود في سجلات التحقيق في مدينة بويتييرز."
-"هل مضى زمن طويل منذ سمعت صوت القديس مايكل؟"
-"أنا لم اذكر صوت القديس مايكل. كل ما حدث هو انه واساني في ساعة بؤسي. الأصوات هي للقديستين كاثرين ومارجريت."
-"هل سمحا لك بالبوح بالعلامة التي تثبت انهما القديستين كاثرين ومارجريت؟"
-"لا اعرف الإجابة على هذا السؤال حتى الآن."
-"وهل أمرك الله بارتداء ثياب الرجال؟"[4]
-"ثيابي تظل اقل الأمور أهمية. بالطبع لم يطلب أبى مني ارتدائها. ولكني أتذكر من قدم الطلب ومتى.
"كل ما فعلته كان إطاعة للأوامر السماوية، وأنا أؤمن بانه كان صوابا واتوقع من خالقي الوقوف معي في ساعة ضيقي."
-"حين سمعت الصوت يأتي لك للمرة الأولى، هل كان هنالك الكثير من الأضواء؟"
-"كان النور في كل مكان. قلوبكم لا تعرف الضوء لان الله ألقى عليها غشاوة وترككم تعمهون في الظلمات."
-"هل رأيت ملاكا فوق راس ملكك حين رايته لاول مرة؟"
-"لم أر اي شيء من هذا القبيل."
-"هل رأيت الأضواء؟"
-"كان هنالك اكثر من ثلاثمائة فارس وخمسون مشعل-بدون إحصاء الأضواء الروحية."
-"اي نوع من الأدلة قدمها الخالق للملك لاثبات شخصيتك له؟"
-"لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال اليوم او خلال هذا العام؟"
-"هل صليت طالبة ان يكون سيفك اكثر حظا؟"[5]
-"كل إنسان يتمنى ان يكون سلاحه محظوظا."
الخميس، الأول من أيار
-"عما اعرفه مما يخص هذه المحاكمة، سأقول الحق. ما سأقوله لن يتغير حتى لو وقفت أمام قداسة البابا المعظم في روما."
-"ما الذي ستقولينه لقداسة البابا، ولمن تعتبرينه البابا الحقيقي؟"
-"وهل هنالك اكثر من واحد؟"
-"هل تحدثت مع القديستين كاثرين ومارجريت منذ يوم الثلاثاء؟"
-"نعم، وان كنت لا أتذكر الساعة."
-"في اي يوم دار الحديث بينكما؟"
-"البارحة واليوم. لا يكاد يمر يوم لا اسمعهم فيه."
-"هل يرتدون دائما نفس الأثواب؟"
-"أراهم دائما بنفس الشكل. لا اعرف اي شيء عن الثياب."
-"وأي شكل ترين؟"
-"أرى وجوههم."
-"هل تمتلك القديسات اللواتي رايتيهن اي من الشعر؟"
-"من المفيد معرفة مثل هذه المعلومات."
-"هل كان الشعر طويلا ومتدليا كالعنقود؟"
-"لا اعرف. ولست على علم عما يملكاه من اذرع وأعضاء أخرى. تحدثتا لي بسلاسة وبصوت رخم عذب، وفهمت ما قالتاه."
-"كيف تحدثتا اذا ما كان لديهما أعضاء؟"
-"هذا لا يعلمه سوى العالم بخفايا الكون. تحدثتا اللغة الفرنسية."
-"هل تحدثت القديسة مرجريت باللغة الإنجليزية؟"
-"ولماذا تتحدث القديسة مارجريت بلغة من لا تقف في صفهم؟"
-"بأي شكل بدا لك القديس مايكل؟"
-"لم أشاهد اي تاج يغطي رأسه. لا اعرف اي شيء عن ثيابه."
-"هل كان عاريا؟"
-"وهل تعتقد ان الخالق الكريم لا يملك ما يكفي لكسوته؟"
-"هل كان لديه اي شعر؟"
-"ولماذا لا يكون الشعر موجودا؟ على كل حال، لم أرى القديس مايكل منذ تركت القلعة. لا أراه الا فيما ندر."
الاثنين، 12من اذار
-"هل كان الملاك الذي يجلب العلامات هو الملاك ذاته الذي ظهر لك أول مرة، أم كان ملاكا آخر؟"
-"هو دائما ذات الملاك الذي لم يتخلى عني أبداً."
-"ألم يتخل عنك حين سمح لأعدائك بأسرك؟"
-"أؤمن بان خالقي أراد لي الأسر."
-"ألم يتخل عنك بلا رحمة؟"
-"كيف يمكن ان يكون قد تخلى عني بينما تظل رحمته ترعاني كل يوم عبر حنان القديستين كاثرين ومارجريت؟"
-"هل تستدعيهما أم يأتيان لك بلا نداء؟"
-"عادة يحضران بلا نداء. بين وهلة وأخرى حين ارغب بحضورهما، اصلي لخالقي لاستدعائهما."
-"حين وعدت الرب بالحفاظ على عذارتك، هل تحدثت أليه مباشرة؟"
-"يكفي ان اقدم الوعد لمن أرسلهم لي."
-"حين رأيتِ القديس مايكل والملائكة، هل أبديت لهم التبجيل؟"
-"بالطبع."
-"هل بقوا معك لمدة طويلة؟"
-"نعم، وقد شاهدتهم يحضرون لرؤية المسيحيين اكثر من مرة بدون ان يراهم أحد."
السبت، السابع عشر من اذار.
-"هل تسلمين نفسك لسلطة الكنيسة المقدسة حتى تحكم في الصالح والطالح من أقوالك وأفعالك؟"
-"احب الكنيسة وارغب بدعمها بكل ما املك من اجل الديانة المسيحية. وما كان يحق لكم حرماني من الذهاب للصلاة يوم الأحد.[6] أما تقييم عملي، فأنا اترك هذا لمالك السماء والأرض الذي بعثني للأمير تشارلز، ابن الملك الراحل الذي سيصير ملكا. أقول لكم ان الفرنسيين سيحققون نصرا كبيرا قريبا وستتذكرون اني تنبأت بهذا بعد رحيلي."
-"أجيبي عن السؤال بخصوص استعدادك لتسليم نفسك لسلطة الكنيسة؟"
-"اسلم نفسي لسلطة الخالق الذي بعثني، للعذراء ماري، ولكل القديسين في جنات الخلد. يبدو لي ان الخالق والكنيسة شيء واحد ولا يحق لاي أحد رفض هذا القول. لماذا يبدو من سؤالك وكأنك ترفضه؟"
الاختبار الثاني: في غرفة الدولة، الثلاثاء، 27 من آذار
-"أشكركم على نصائحكم لي بخصوص العقيدة ولكنني افضل الاستماع لنصيحة خالقي. أؤمن بان قداسة البابا ومعاونيه يقومون برعاية العقيدة المسيحية وعقوبة المخطئين. ولكني لن اسمح لأي أحد بتقييم أفعالي باستثناء الأب حاكم كنيسة السماء، ومريم العذراء والقديسين في جنات الخلد. أؤمن باني لم اخطأ بحق عقيدتي ومبادئي ولا ارغب في ان ارتكب الخطيئة.
"ليس من الخطأ أن اخدم خالقي.
"لو رفض القضاة السماح لي بالمشاركة في صلوات يوم الأحد، سيعطيني الخالق ما حرمتموني منه في الوقت المناسب.
"أحياناً كثيرة انتقدوتونني بسبب عدم ارتدائي الثياب النسائية. رفضت ذلك الاقتراح، ولا أزال ارفضه. هنالك الكثيرات من النسوة القادرات على الوظائف التقليدية.
"لقد دعوت للسلام. بريديا وعبر الرسل توسلت لدوق برجاندي ان يوافق على الصلح. السلام المطلوب مع البريطانيين من ناحية أخرى يتطلب موافقتهم على الرجوع لديارهم.
"لم اعتمد على السحر او الفنون الشيطانية في إنجاز ما أنجزت.
"كان من الحكمة للإنجليز التفكر فيما كتبته لهم في رسالتي. قبل مرور سبع سنين، سيتذكرون كلماتي ويعضون بنان الندم على عدم أخذها محمل الجد.
"فانا لم ابعث تلك الرسائل لتغذية كبريائي، بل إطاعة لأوامر الخالق.
"عرضت عليهم التصالح، أنذرتهم بالحرب اذا لم يجنحوا للسلم.
الأربعاء، آذار 28
"يختار الخالق بإرادته من يقدم لهم رؤاه.
أما العلامات، فلا ذنب لي اذا كان من يطلبها لا يستحقها.
أؤمن بان المسيح تحمل عذاب الصلب حتى ينقذنا من آلام الجحيم، أؤمن كذلك ان من رايتهم هم القديس مايكل والقديسة كاثرين والقديسة مارجريت، وقد بعثهم الخالق لنصحي ومواساتي.
وسأطلب منهم العون طوال أيام حياتي.
ما أقوله في صلاتي هو:
"يا خالقي العظيم، تكريما لعاطفتك المقدسة اسالك ان تكشف ما يجدر بي قوله لمن يحققون معي. أما بالنسبة لهذه الثياب، فأنا اعرف الأمر الذي دفعني لارتدائها. ولكنني لا اعرف الطريقة والوقت الملائمين لتركها. لذلك، ارجوا أن تهديني لسواء السبيل.
"ثم تأتى لي الأجوبة فورا.
"أنكر ان المسيح قد تخلى عني.
"احترم أبجل صراع الكنيسة مع قوى الشر ولكني لا أستطيع تقديم أفعالي لقضاتها للحكم علي. الله خالقي طلب مني ان افعل ما فعلت وهو الذي سيحاسبني على ذلك الفعل.
أنا مسيحية مخلصة، بريئة من كل ما تتهموني."
حين أخذوني الى سجن القلعة، واروني آلات التعذيب وهددوني بها، قلت لهم:
"والله لو مزقتم أعضائي عضوا عضو حتى ترحل روحي من الجسد المعذب، فلن انبس ببنت شفة. وحتى لو اقسرتوني على الاعتراف فسأذكر لكل من أراه أنني تعرضت للتعذيب. سالت الأصوات عما يجدر بي فعله، خصوصا لان قادة الكنيسة يلحون على أن اقدم نفسي لهم لمحاكمتي، وكان الجواب ان الله سيكون في صفي لو رفضت ان يحكمني سواه."
اليوم الأخير: الأربعاء، مايو 30
بعد ان ابلغونني بأنهم سيقيدونني الى شجرة ويحرقوا جسدي، قلت لهم: "لو كنت في مكان إعدامي، وشاهدت الزبانية يشعلون النيران التي تلتهب حين يلقون لها بالأخشاب الجافة، ولو كنت في وسط اللهيب، حتى آنذاك لن اعترف بالمزيد، ألح على تكرار ما قلته حتى ساعة الموت.
ليس لدي المزيد من الأقوال."
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مصدر النص المترجم والمعلومات المذكورة في التمهيد هو: Joan of Arc: A Self Portrait. Ed. Trans. Willard Task. New York: Stackpole Sons, 1936.
[2] طوال المحاكمة، سعى المحققون لدفع جان للاعتراف بممارستها للسحر. وهنا يبدو انهم ارادو خداعها عن طريق دفعها للاعتراف بالايمان بان بعض الاشجار او الينابيع كانت مقدسة من قبل الجنيات، اي الارباب القدامى اللذين امن الناس بهم قبل المسيحية. الرقص حول الاشجار وتوزيع السلال هي من طقوس تلك الاديان القديمة.
[3] اي انها امية لاتعرف القرائة والكتابة.
[4] يبدو ان اكثر ما ضايق المحققين هو تنكر جان في ثياب الرجال. من المؤكد انها اضطرت لذلك لانها عاشت مع الجنود، حملت السلاح، وشاركت في المعارك.
[5] مرة اخرى، يتسائل القضاة عن مدى ايمان جان باساطير قديمة.
[6] كنوع من الضغط لدفها للاعتراف حُرمت جان من الذهاب الى الكنيسة بعد القبض عليها.