Friday, March 03, 2006

الفرح، الحزن، البحث عن سبينوزا



الفرح، الحزن، والدماغ الحساس
البحث عن سبينوزا
تأليف :انطونيو دمازيو


ؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور الشهير انطونيو دمازيو استاذ علم الاعصاب في المركز الطبي لجامعة «ايوا» بالولايات المتحدة الاميركية وقد نال سابقا عدة جوائز على ابحاثه واكتشافاته في مجال علم الاعصاب الدماغية وهو عضو المعهد الطبي التابع للاكاديمية القومية للعلوم، كما انه عضو الاكاديمية للفنون والعلوم وكتب البروفيسور دمازيو مشهورة وتدرس في مختلف جامعات العالم.


وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن واحد من كبار الفلاسفة في التاريخ: سبينوزا ثم يقيم مقارنة بين آراء هذا الفيلسوف عن الفرح والحزن والغم والحسد وبقية المشاعر الانفعالية وبين اكتشافاته هو بالذات بصفته عالما،


ومختصا بعلم الاعصاب الدماغية، وكم كانت دهشته كبيرة عندما اكتشف ان افكار الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن السابع عشر تتوافق في معظم الاحيان مع اكتشافات آخر النظريات الطبية والعلمية عن اصل الانفعالات البشرية!


يقول المؤلف بما معناه: ان الفرح، والحزن، والحسد، والغيرة، والخوف، كلها احاسيس نشعر بها يوميا ونعيشها، ولكننا نجهل عموما مصدرها العميق واسبابها اما سبينوزا فلا يجهل ذلك سبينوزا كان اول من بحث عنها بشكل منتظم وشكل عنها نظرية جادة وصلبة.


والواقع ان نظريات سبينوزا عن الموضوع ترهص بأبحاث علم الاعصاب الدماغية الحديث وتمهد لها الطريق وتتجلى حداثة سبينوزا من حيث انه رفض الفصل بين الجسد والروح على عكس ديكارت فالروح والجسد متلازمان في رأيه وما يؤثر على الروح ينعكس على الجسد والعكس صحيح ايضا وبالتالي فالمرض النفسي يؤدي الى اعتلال جسدي، والمرض الجسدي ينعكس على النفس والروح.


من المعلوم ان سبينوزا كان قد ولد في عائلة يهودية بمدينة امستردام عام 1932 ولكنه انفصل عن طائفته والدين اليهودي بعد ان بلغ العشرين او اكثر قليلا واعتنق الفلسفة


وهذا ما دفع بالطائفة اليهودية الى فصله من صفوفها ولعنه، ومنع اي يهودي في الاقتراب منه باعتبار انه كافر زنديق خرج على دين الآباء والاجداد ولذلك هرب سبينوزا من امستردام وذهب الى الريف الهولندي لكي يعيش في مدن صغيرة وفي اوساط المسيحيين الليبراليين المستنيرين الذين احتضنوه ودعموه بعد ان توسموا فيه العبقرية.


ثم ذهب الى مدينة لاهاي وعاش هناك في عزلة ووحدة مكرسا جل وقته للمطالعة والكتابة ولكنه كان مقربا من بعض الشخصيات السياسية المهمة التي خصصت له راتبا لكي يكمل ابحاثه وكان تعرفه على الفلسفة الديكارتية من خلال بعض الاساتذة هو السبب في تخليه عن العقائد اليهودية التقليدية.


والواقع ان فلسفة ديكارت كانت جديدة وطازجة آنذاك وكانت تعتبر بمثابة الحدث الاعظم للفكر فديكارت بدا وكأنه ارسطو جديد بل انه قام بانقلاب على ارسطو القديم اي المعلم الاول وحل محله.


ولذلك فان سبينوزا شعر بصدمة كبيرة عندما تعرف على فلسفته ولهذا السبب قرر هو الآخر ايضا ان يصبح فيلسوفا والواقع ان سبينوزا لم ينشر الا القليل في حياته خوفا من الرقابة بل وربما خوفا من الاغتيال ايضا.


ومن المعلوم انه تعرض لمحاولة قتل على يد اصولي يهودي متعصب ولكن لحسن الحظ فان المعطف الذي كان يلبسه في ذلك اليوم كان سميكا جدا فلم تصبه ضربة الخنجر في العمق وانما خدشته فقط.


لم ينشر سبينوزا في حياته الا كتابين: الاول باسمه الحقيقي، والثاني بدون توقيع، وكان عنوان الاول هو التالي: مباديء فلسفة ديكارت.


واما الثاني فقد اتخذ العنوان التالي: مقالة في اللاهوت والسياسة وهو يشرح فيه نظريته المبتكرة جدا والسابقة لاوانها عن العلاقة بين الدين والسياسة.


ثم يشرح المؤلف نظرية سبينوزا عن المشاعر والانفعالات ويقول بما معناه: الانسان بحسب منظور سبينوزا هو جزء من كليّانية الوجود وبالتالي فهو خاضع لقوانين السببية والحتمية مثله في ذلك مثل جميع الكائنات الموجودة على سطح الارض.


وقبل ان يتحرر الانسان عن طريق المعرفة فانه يكون عادة جاهلا ومستعبدا لمشاعره ونزواته وعندئذ يطفو على سطح الانفعالات الهائجة التي تتقاذفه او تلعب به كما تشاء، واحيانا يسيطر الحزن او الغم على الانسان دون ان يستطيع منه فكاكا، ولو انه عرف سببه لتحرر منه وبالتالي فان اول هدف للمعرفة هو تحريرنا من الغم او الهم الذي يسيطر علينا.


ويقول سبينوزا ايضا: ان الحزن لا يمكن ان يسيطر علينا الا اذا ضعفت رغبتنا في الحياة او قلت ثم يحلل سبينوزا طبيعة الحقد الذي نسقطه على الآخرين او حتى على انفسنا احيانا فهناك كثيرون ممن يكرهون انفسهم.


ولكن الحقد او الكره لا يمكن ان يكون شيئا جيدا. لماذا؟ لاننا نحاول ان ندمر الشخص الذي نكرهه او نؤذيه على الاقل وبعدئذ تجييء مشاعر اخرى من تلك التي تسيطر على الانسان ثم اذا ما كرهنا انفسنا فاننا نميل الى التدمير الذاتي للذات: اي الى الانتحار.


ونذكر من بينها الغيرة، او الحسد، او التهكم، او الاحتقار، او الغضب، او الانتقام وهي جميعها سيئة ولا جدوى منها في نظر الفيلسوف الكبير. ثم هناك مشاعر العار وهي من ابشع انواع المشاعر.


واما التوبة التي يلح على اهميتها المسيحيون في كتبهم الاخلاقية فلم تكن ذات خطوة لدى سبينوزا فهي ليست فضيلة في نظره لان ذلك الشخص الذي يتوب تعيس بشكل مزدوج او عاجز فطاقته الحيوية الخلاقة معرقلة مرتين لا مرة واحدة فهو من جهة ذو روح مستعبدة او مسترقة لان التوبة تعني الخضوع والعبودية بمعنى من المعاني ثم ان التوبة شيء رديء ككل المشاعر السلبية الحزينة، والحزن في رأي سبينوزا شيء سلبي باستمرار لانه يخفض من امكانياتنا على الحركة والحياة، والفعل، والابداع.


وفي نظر سبينوزا فان اي احتقار للحياة او زهد فيها يعني شيئا سلبيا وسيئا فالحياة ينبغي ان نحبها لا ان نكرهها وندير ظهرنا لها.


وبالتالي فان الانسان لا يمكن ان يتوصل الى الحرية الا عن طريق المعرفة فالمعرفة هي التي تحررنا من اوهامنا وتخيلاتنا ووساوسنا ويقصد بها سبينوزا معرفة اسباب آلامنا وحرننا وتعاستنا فاذا عرف السبب بطل العجب كما يقول المثل ويقصد بها ايضا معرفة الله والقيم العليا والقوانين التي تمسك الكون.


وبعد ان يتعرف الانسان على نفسه بشكل جيد يصبح قادرا على ان يعيش ويتصرف طبقا لمقتضيات الاستقامة والنزاهة والفضيلة. والفضيلة في نظره لا تعني الخوف والخضوع والعبودية، وانما تعني تحقيق الذات على هذه الارض بشكل ايجابي وبكل فرح وسعادة.


وفي نظر سبينوزا ان تكون فاضلاً فهذا يعني ان تكون قادراً على ان تتصرف بشكل جيد وان تعيش بشكل جيد، واذا كان الحزن دائماً شيئاً رديئاً في نظره فإن الفرح يشكل قيمة ايجابية وذلك لانه يعني زيادة قدرتنا على التحرك والتأثير على الاشياء.


لقد ارعب سبينوزا معاصريه بهذه التصورات المادية عن وحدة الوجود. ويقال بأن الفيلسوف الالماني الشهير لايبنتز عندما اطلع على كتابه «الاخلاق» صرخ قائلاً يا له من كتاب مرعب!


ثم يضيف المؤلف قائلاً ما معناه:


ان سبينوزا يمتلك نظرية متكاملة عن المشاعر التي تنتاب الانسان وهي مرتبطة بنظريته عن الحرية. فهو يقول بأننا نتعرض لاهدافنا العنيفة ومشاعرنا الهائجة التي تلعب بنا وتؤثر علينا سلباً لاننا لا نعرف اسبابها العميقة.


وبالتالي فإن المعرفة بأسبابها هي التي تحررنا منها فالناس عموماً يمتلكون معرفة خاطئة، أو غير مطابقة عن الاسباب التي تسبب لهم الحزن أو الغم او الحسد او الخوف، الخ.


وبالتالي فإذا ما ارتفعوا الى مستوى المعرفة الصحيحة او المطابقة بهذه الاسباب فإنهم يستطيعون عندئذ ان يتحرروا من هذه المخاوف والاوهام. هذا التركيز على دور المعرفة في التحرير شيء هائل ورائع.


فالمعرفة في نظر سبينوزا ليست تراكماً للمعلومات وانما هي وسيلة لتحرير الانسان من كل ما يضغط عليه ويسبب له الازعاجات والآلام.


واذا لم تكن المعرفة مفيدة في حل مشاكل الانسان فلا معنى لها. وهذا تصور حديث جداً عن المعرفة وسابق حتماً لعصر سبينوزا بكثير.


والواقع ان هذا الفيلسوف كان متقدما على عصره في جميع المجالات تقريباً. ولهذا السبب فلم يفهمه معاصروه وانما شكوا به ولعنوه وادانوه بتهمة الكفر والالحاد.


وكل مفكر سابق لزمانه يكون مكروهاً عادة ويقابل بالرفض ولكن هناك مسألة كان فيها سبينوزا من اهل زمانه وهي: قوله بأن المرأة عاجزة عن القيام بأي دور سياسي وان السياسة ينبغي ان تكون للرجال فقط.. وهذه النظرية الاحتقارية للمرأة وامكانياتها أو بالاحرى عدم امكانياتها كانت سائدة في العصور القديمة كما هو معروف.


مهما يكن من امر فإن هذا الكتاب الذي يقدمه البروفيسور انطونيو دمازيو مليء بالتحليلات الثاقبة، كما انه يعرف كيف يربط بين الماضي والحاضر بين عصر سبينوزا وعصرنا الحالي، وبين العلم الذي كان متوفراً في القرن السابع عشر عن الانسان والمادة الفيزيائية والجسد، والعلم المتوافر في اوائل القرن الواحد والعشرين.


ولكي نوضح ذلك اكثر يفضل ان نعطي فكرة عامة عن التركيبة الداخلية لهذا الكتاب، نلاحظ انه مؤلف من سبعة فصول مع هوامش كثيرة فالفصل الاول يتحدث عن مشاعر المؤلف تجاه سبينوزا بعد ان زار هولندا والاماكن التي عاش فيها الفيلسوف الكبير قبل ثلاثة قرون أو اكثر.


ثم يتحدث عن معنى الانفعالات في عصر سبينوزا ومعناها في عصرنا الحالي وعن اقامة سبينوزا في لاهاي بعد ان هرب من امستردام.


كما ويتحدث عن اقامة سبينوزا في مدن اخرى صغيرة حيث كان يسكن غرفاً مفروشة عند الناس وفي احياء هادئة لكي يتفرغ للتأمل الفلسفي والكتابة.


واما الفصل الثاني من الكتاب فيحمل العنوان التالي: بحث عن الشهوات والانفعالات التي نتعرض لها في الحياة. والفصل الثالث مكرس للانفعالات فقط.


وهو يطرح السؤال التالي: ما هي الانفعالات؟ ولماذا تصيبنا يا ترى؟ لماذا لا نستطيع ان نسيطر على مشاعر الحزن، أو الغضب، أو الحسد، أو الخوف، أو الكره التي تنتابنا احيانا؟


وفي الفصل الرابع يواصل المؤلف حديثه عن الانفعالات ويتحدث بشكل خاص عن الشعور بالفرح، والشعور بالحزن، كما ويتحدث عن الانفعالات والسلوك الاجتماعي.


واما الفصل الخامس فمكرس لدراسة العلاقات الكائنة بين الاشياء التالية: الجسد، الدماغ، العقل، وهنا يطرح مسألة العلاقة الجدلية الكائنة بين الجسد والعقل كما كان يتصورها سبينوزا،


وكما يتصورها علم الاعصاب الدماغية الحديث في آخر ما توصل اليه في اكتشافات وانجازات وعندئذ يكتشف اوجه التشابه والاختلاف بين تصور سبينوزا وتصورنا نحن وعندئذ ندرك مدى عبقرية سبينوزا وكيف استبق على آخر اكتشافات العلم الحديث.


ثم يتحدث المؤلف ايضاً عن زيارته لمدينة لاهاي عاصمة هولندا في شهر ديسمبر من عام 1999 ولا يعدم ان يعود الى الوراء لكي يرى حالة المدينة وكيف كانت في زمن سبينوزا حوالي عام 1670.


واما الفصل السادس فيتخذ العنوان التالي الشديد الدلالة: زيارة الى سبينوزا وهنا يتحدث المؤلف عن زيارته هو لمدينة هولندية صغيرة اقام فيها سبينوزا في وقته هي ريجنسبورغ، وقد زارها البروفيسور دمازيو عام 2000 وفي شهر يوليو تحديداً.


وبعدئذ يتحدث عن اوضاع مدينة لاهاي عام 1670 ثم مدينة امستردام عام 1632 اي في العام الذي ولد فيه سبينوزا، ويتحدث عن الجو العام السائد آنذاك وعن الافكار والاحداث.


كما ويتحدث عن كيفية اضطهاد المفكرين الاحرار من قبل الاصولية اليهودية أو المسيحية ثم يصل الى تلك القصة الشهيرة المتعلقة باضطهاد سبينوزا نفسه وكيفية فصله من الطائفة اليهودية واطلاق فتوى لاهوتية تلعنه وتمنع اي شخص من الاقتراب منه او مساعدته.


وفي الفصل الثامن والأخير يتحدث المؤلف عن كيفية موت سبينوزا في الخامسة والاربعين من عمره ، وما هو الارث الفكري الذي خلفه لنا.


الكتاب: البحث عن سبينوزا، الفرح، الحزن، الدماغ الحساس


الناشر: هارفست بوك ـ نيويورك 2004


الصفحات 356 صفحة من القطع المتوسط



looking for spinoza




joy, sorrow, and the feeling brain




antonio damasio




harvest book - new york 2004




p. 356

0 Comments:

Post a Comment

<< Home