Friday, March 03, 2006

والدن




هنري ديفد ثورو
1817-1862


فقر أسرة ثورو لم يمنعه من طلب المعرفة: فقد درس في مدرسة مدينته الصغيرة، كونكورد، ثم ذهب الى جامعة هارفرد معتمدا على مساعدة بعض الأقارب من ناحية، وعلى التدريس في أوقات الفراغ. مع انه حاول بعد التخرج العمل في مجال التعليم، وفتح مدرسة خاصة مع أخوه جون في كونكورد، الا انه سرعان ما مقت رتابة الوظيفة وتركها. فقد كانت الحياة هي ما يروم. حاول بعد ذلك العمل مع والده في صناعة الأقلام، ولكنه ترك هذا العمل كذلك بعد ان أتقنه.

منذ بداية دراسته في هارفرد، كتب ثورو الكثير من المقالات التي دلت على فكر مجدد ثاقب، ولكنه، حين وافاه الأجل في سن الرابعة والأربعين، ما كان قد نشر سوى والدن (1845) الذي يصف فيه أقامته الانفرادية بجوار بحيرة والدن لمدة عامين وشهرين، ومقالته المعروفة "العصيان المدني" التي أسس فيها طريقة المعارضة السلمية التي طبقها غاندي في الهند بعد ذلك.

من الخطأ التصور ان تركيز ثورو على الفردية وحبه للطبيعة والسعادة بالدنيا والأمل في غد افضل، هذه الصفات الظاهرة في ما يكتب، تعكس حياة هادئة سعيدة: الكثير من الجيران والأصحاب والأقارب اعتبروه متطرفا في فكره، خصوصا فيما يخص قضايا السياسة والاقتصاد، مما أدى لخلافات كثيرة معهم استمرت طوال حياته. ولقد أحس بالخسارة الفاجعة حين أراد أخوه واعز أصدقائه، جون، الزواج من الين يويل، الفتاة التي أراد ثورو نفسه الزواج منها. ولكن الفتاة رفضت الاثنين معا. بعد عامين من هذا الحدث، مات جون، الضحية الأولى لضعف اسري وراثي. ثم ماتت أخت ثورو المفضلة هيلين بعد ذلك في سن السادسة والثلاثين، اما ثورو نفسه فتوفي بعد سبع سنوات، ولنفس السبب، وهو السرطان.

أول نسخ والدن كتبت في سنة 1846. وقد قام ثورو بعد ذلك بأجراء العديد من التعديلات لقراءة أجزاء من الكتاب في مركز كونكورد الثقافي، ثم لطباعته في سنة 1854. وهذه الطبعة الأولى هي مصدر هذه الترجمة.[1] العمل يعتبر من عيون الأدب الأمريكي لعمق نظرة الكاتب ونقده الصريح لما يراه في مجتمعه من عيوب، وللأسلوب الذي يعكس ثقافته الواسعة بلا تصنع. يمكن مقارنة هذا العمل بمذكرات فردرك دوجلاس لان كلا العملين يتميزان بتفرد الكاتب ورغبته في التحرر من القيود التي يفرضها المجتمع عليه. أما أهم الموضوعات في والدن فهي بلا شك فكرة الفرد التي يحللها الكاتب عبر عدة مناظير منها اقتصاد الفرد، الجانب الروحي والزمني لتجربة الانعزال، الاعتماد على النفس في مجتمع ينفيها، ونظرية السمو الفردي عبر الارتباط بالزمن والأزلية في الوقت نفسه، وغيرها.






والدن، أو الحياة في الأدغال


لا أريد كتابة قصيدة للحزن، بل ان افخر بأعلى صوت مثل ديك

الصباح الباكر، على الأقل لأيقاظ الجيران من سباتهم العميق.



الاقتصاد:

كتبتُ جل هذه الصفحات أثناء وحدتي في الأحراش، على بعد مالا يقل عن ميل من اقرب جار، في منزل قمت بنفسي ببنائه على ساحل بحيرة والدن، في كانكورد بماستكيوسس حيث كسبت رزقي من طعام وشراب بعملي بدون طلب العون من اي إنسان. عشت بهذه الطريقة لمدة عامين وشهرين ثم رجعت الى حياة الحضارة مرة أخرى.

لم اكن لاجلب خصوصياتي الى القراء لو لم توجه الي أسئلة كثيرة من أهل بلدتي. وحتى الان، يبدو بعضها تدخلا سافرا في أموري الشخصية. ولكن، لو تذكرنا الظروف الغريبة المحيطة بالموضوع، ستبدو الأسئلة طبيعية ومقبولة. البعض سألوني عما تناولته من طعام، وعن مدى معاناتي من الوحدة والخوف في أيام عزلتي. آخرون، من أصحاب الأسر الكبيرة رقيقي الحال، سألوني عما قدمت من صدقات وعن عدد الأطفال الذين أعلتهم. ولذلك ساستسمح العذر من أولئك الذين لا يهتمون بموضوعي، ساعياً في الصفحات المقبلة للإجابة على بعض هذه الأسئلة.

تختفي الانا، ضمير المتحدث، من معظم الكتب، ولكنها ستبقى واضحة في صفحات هذا الكتاب. هذا الفرق الأساسي بين كتابي وغيره لا يعني أنانيتي. نحن عموما ننسى ان المتحدث دائما موجود، وان سعى لاخفاء آثار هذا الوجود في ما يكتب. أنا كذلك أتوقع من كل كاتب، في بداية كتابه او الختام، ذكر بسيط وصادق لحياته، لا فقط ما سمعه عن حياة الآخرين، ذلك الوصف البسيط الذي يبعثه للأقارب من ارض بعيدة، لانه، لو عاش بصدق، فلابد ان يكون ذلك قد حدث في ارض بعيدة. ربما سيهتم الفقراء من طلاب العلم اكثر من غيرهم بما اكتب. أما باقي القراء، فسيتقبلون ما يجدوه مفيدا لهم ومرتبطا بأعمالهم اليومية.

ارغب في الكلام عن أولئك القراء الذين يعيشون في بريطانيا الجديدة،[2] عن أوضاعهم الحالية وضرورية الاستمرار على ذات المنوال السيئ وامكانية الاصلاح. سافرت كثيرا في قريتي كون كورد، وفي كل مكان رمته، في الدكاكين والمكاتب والحقول، بدا لي الناس وكانهم يدفعون الكفارة بألف طريقة وطريقة. ما سمعته عن رجال البرامن[3] الذين جلسوا لمدة طويلة محاطين بأربع نيران ملتهبة وهم يتطلعون للشمس الحارقة التي صبت نارها عليهم في قيظ الصيف حتى استحال عليهم الرجوع لوضعهم الطبيعي، او قيدوا أنفسهم بالسلاسل لاعوام طويلة، او وقفوا على قدم واحدة على قمم الجبال، حتى هذه الوسائل العجيبة للتكفير عن الذنوب ليست اغرب من المشاهد التي أراها يوميا. المعجزات الاثنتا عشرة لهرقل عمل بسيط بالمقارنة مع ما يفعل جيراني كل يوم. ومن الغريب ان هرقل قد ختم معجزاته ورحل بينما ظل الجيران على حالهم بدون ان تنتهي الأعمال التي يسعون لإنجازها.

أرى الشباب، رجال مدينتي، وقد ساء حظهم بعد أن ورثوا الحقول والمنازل والقطيع وآلات الزراعة، لان مثل هذه التركة يسهل الحصول عليها ويصعب التخلي عنها. كان من الأفضل لو كانوا قد ولدوا في الأدغال وأرضعتهم الذئاب لانهم كانوا سيعرفون أي حقل يجب ان يستنفذ طاقاتهم. من جعلهم خدما للتراب؟ لماذا يأكلون 60 هكتارا من الأرض حين كانت لعنة الإنسان ان يأكله التراب؟ لماذا يبدءون في حفر قبورهم منذ ساعة الولادة؟ لابد ان يدفعوا بكل ما امتلكت أيمانهم بعيدا عنهم، ساعين لحياة حقيقية بقدر استطاعتهم. كم من روح بائسة سحقها الثقل وهي ترزح بحمل الأطيان الكثيرة التي لابد من زراعتها ورعايتها. أما من لا يمتلك، ذلك الرجل الذي لا يحتاج للصراع مع كل ما ورث من معوقات غير ضرورية، فهو سيجد ما يكفيه من مشقة في السيطرة على ما يملك من لحم ودم.

جل الرجال يعملون حسب منطق خاطئ. فالجزء الأفضل من حياة الإنسان يُدفن في حفر أنتجتها عملية حراثة الأرض. بسبب نوع من المصير، الذي يسمونه خاطئين حتمية، يكدحون في كنز كنوزهم على الأرض "حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون."[4] انها حياة تصلح للبليد، كما سيكتشفون في النهاية، أو قبل ذلك.

بسبب الجهل وقلة التفكير، يظل اكثر الرجال، حتى في هذه البلد الحرة نسبيا، مشغولين بهموم تافهة وأعمال غير مجدية. حقيقة الأمر هي أن الرجل العامل لا يملك من الفراغ ما يكفي للوصول للكمال الفكري والروحي، او حتى للنزاهة. لانه لا يستطيع دفع سعر العلاقات الناجحة مع الآخرين، يبخسونه الأجر في سوق العمالة. وهو لا يملك من الوقت ما يكفي ليكون اكثر من آلة. كيف سيتذكر مدى جهله، وهو تذكر لازم للنضوج، وهو يضطر دائما لاستخدام معرفته القليلة لإتمام عمله؟ لابد لنا من تغذيته وجلب الثياب له، أحياناً بلا ثمن، ومعاملته بطريقة ودية، قبل ان نحاول تحديد مستواه. افضل الصفات البشرية، مثل النبات الناضج، تبقى فقط اذا عُوملت برقة وحساسية، ونحن نعامل أنفسنا والآخرين بصرامة تتزايد كل يوم.

بعضهم كما هو معروف فقراء يبحثون حتى عن الهواء. لا اشك ان هنالك من القراء من لا يستطيع دفع ثمن وجبة طعام، او تجديد الثياب والأحذية التي تتآكل او تآكلت منذ زمن، وهم قد أتوا الى هذه الصفحات لقضاء لحظات استعاروها، أو سرقوها، من المدينين. من الواضح كم هي غادرة ومنحطة أعمالهم: دائما في الأطراف، ساعين لدخول سوق العمل والتحرر من قيود الدين، عبر ذلك الممر القديم، طريق الفضة، حيث يعيش المرء ويموت بسبب ما يملك الآخر من فضة، متعهدا بالدفع غدا، وبالموت اليوم في سبيل تحقيق المزيد من الربح. بلا ديون، يصير المرء راغبا في تبادل المنافع، الوصول للبضاعة، بأي طريقة، فقط بحيث يتفادى السجن. الكذب والنفاق، شراء الأصوات في موسم الانتخاب أو تزويرها، وكل هذا حتى يستطيع المرء حبس نفسه في صدفة المجتمع المخملي، او التوسع في مناخ من الكرم الذي سرعان ما يتبخر بلا فائدة لأي أحد. الهدف هو إقناع جارك الغني ليسمح لك بإصلاح حذائه او قبعته أو معطفه او عربته، او توريد الخضراوات له، مما يصيبك بالمرض اليوم، في سبيل توفير بعض القروش ليوم المرض. لابد من الوصول لشيء من المال الذي ستخفيه في دولاب قديم، او في البنك، ولايهم أين او كم.

أحياناً أتسائل كيف وصلنا لذلك المستوى الذي يجعلنا نهتم بمشكلة رقيب قاسي يسيء معاملة عبيد سيده في الجنوب، وننسى أننا جميعا نعامل أرواحنا وأجسادنا وكأنها عبيد اقتفيناها في سوق النخاسة: انظر للتاجر وهو يقضي عمره هارعا من متجر لاخر. هل ترى أي قداسة او روحانية تتحرك في داخله؟ اكثر أعماله روحانية هو تقديم العلف والماء لحصانه. هل يهمه مصيره في الدنيا والآخرة اكثر من نسبة الربح التي يتقاضاها؟ تأمله وهو ينكمش ويتسلل، معانيا من الخوف المبهم طوال النهار، متحولا من الروح الحرة التي وهبها الخالق الى عبد أسير لرأيه عما يستحق ان يجنيه من أرباح على عنائه. الرأي العام حاكم ضعيف بالمقارنة مع طغيان آرائه الخاصة. فكر أيضاً في السيدات اللواتي يقضين أعمارهن في صناعة النسيج. هل يهمهن المصير ام الأوراق الخضراء؟ أما التحرر، فأي مُخّلص يستطيع تحرير هذه البشرية المكبلة بالأصفاد؟ وهل يمكن قتل اللحظة بدون جرح الأبدية؟

جل الناس يقضون أعمارهم في يأس صامت يسمونه رضا او قناعة. من يأس المدينة نتجه نحو يأس القرية حيث يقنع المرء نفسه بشجاعة الفئران وسرعة السلاحف. اليأس اللاشعوري يختبئ حتى في ما يسمى الألعاب والتسالي. ليس هنالك أي تسلية حقيقية، لان الألعاب تأتى دائما بعد العمل في الأهمية. لكن طبع الحكمة، وهو عدم الانفجار وممارسة ما لا طائلة منه، تقنع الناس بالرضا بالقليل من التسلية لنسيان اليأس الغامر ولو للحظات عابرة.

حين نأخذ في الاعتبار الأهداف الأساسية لحياة الإنسان، الضروريات والوسائل المتاحة للوصول أليها، يبدو وكان البشر يفضلون طرقا تقليدية للحياة على غيرها. الكائن الواعي الصحي يتذكر ان الوقت لم يتأخر للتخلي عن العقائد الخاطئة. لا يمكن الثقة بأي طريقة للتفكير والعمل مهما كانت جذورها قديمة بدون تجربتها. ما يوافق عليه الجمع بكلامه او صمته اليوم قد يتضح خطئه غدا، بحيث يبدو ما تصوره البعض سحابا يحمل المطر الذي سيروي الحقول عبارة عن دخان. ما تصور العجائز استحالة فعله البارحة يصنعه الشباب كل يوم. في أيام صباهم، ما عرف العجائز كيف يجلبون الوقود لابقاء النار مشتعلة، بينما نجح الشباب في وضع بعض الأخشاب تحت أناء، ومن الطاقة البخارية الناتجة، انطلقوا عبر الأرض بسرعة الطيور. كبير السن غير راغب بالتعلم لانه خسر من الأيام اكثر مما يمكن ان يكسبه عن طريق المعرفة. عمليا، لا يملك الرجل الكبير الكثير من النصائح التي يستطيع تقديمها للشباب، مما يدفع المتفكر للتساؤل عما إذا كان المرء يتعلم أي شيء من مجرد الحياة لزمن أطول. عشت ثلاثين عاما على ظهر هذا الكوكب، وحتى الان لم اسمع المقطع الأول من نصيحة قيمة قدمها لي من يكبرني في السن. هاهي الحياة أمامي، تجربة لم أخض غمارها، ولن يفيدني من عركها قبلي. لو حدثت لي أي تجربة قيمة، فمن المؤكد أنني لن أكون قد سمعت بها ممن يكبرونني سناً.

في أي طقس، خلال ساعات النهار والليل، سعيت جاهدا لتوسيع ما قدمته الحياة لي من فرص، بحيث اقف في نقطة لقاء أبدين، الماضي والمستقبل، في صلب اللحظة الحاضرة. طمحت لان اسبق، لا ضوء الفجر والصباح فحسب، بل وللتفوق على الطبيعة نفسها. كنت اقضي عملي كل يوم في الصباح الباكر قبل ان يستيقظ جيراني من سباتهم العميق، وكانوا يرونني أعود من مشاريعي بينما هم بالكاد يبدءون عملهم اليومي، ذاهبون للدغل لقطع الأشجار او للاتجار في المدينة. اعترف بأنني لم أساعد الشمس في طلوعها، ولكنني كنت دائما موجودا تلك الساعة.

حين عملت في الصحافة، قضيت فصول الخريف وأيام الشتاء خارج المدينة، ساعيا لسماع ما تجلبه الريح معها من أنباء، راغبا في التقاط تلك الرسالة الخفية الهامة.[5] كدت ان اخسر كل ما ملكت من مال سعياً وراء هذا الهدف. أحياناً، كنت اكمن في مركز للمراقبة فوق شجرة او هضبة، منتظرا وصول أول القادمين لمحادثته، وحين ما جاء أحد، بقيت في مكاني حتى المساء. ونادرا ما استحقت الإخبار التي وصلت لي هذا العناء. فقد تصور رئيس تحرير المجلة التي عملت بها ان ما اكتب هو سبب قلة التوزيع، ولذلك رفض نشر الكثير من مقالاتي. فقط حين تعلق الخبر الذي جلبته بالحكومة او المعارضة قرأته في جريدة الصباح. هكذا، وكما هو الحال مع الكثير من الكتاب، لم تكن مكافأتي على العمل سوى العناء الذي بذلته. ومع ذلك، فقد كان ذلك العناء مكافأة في حد ذاته.

بعد ان تركت الصحافة، نصبت نفسي مفتشاً على الطرق العامة ودروب الأدغال، للتأكد من صلاحيتها للاستخدام بعد عواصف المطر والثلوج، وأن الجسور كانت قادرة على تحمل العربات في كل الأوقات. قمت أيضا بإعادة الحيوانات التي غافلت حراسها وقفزت فوق الأسوار لاصحابها. ولم يقتصر عملي على كل هذا فحسب، لأنني كذلك قمت بسقي أشجار الكرز والقراص، الصنوبر الأحمر والدردار الأبيض، وغيرها من النباتات التي كانت ستذبل في موسم الجفاف، وان كنت لم اهتم بمعرفة مالك الأرض التي قمت برعايتها. باختصار، بقيت لمدة طويلة مهتما بأمور البلدة، حتى صار من الواضح ان سكان مدينتي لن يعتبرونني من العاملين فيها او يهبونني أي اجر على عملي. حسابي، الذي احتفظت به بإخلاص وأمانة، لم يُدرس أو يقبل او يُدفع لي. على كل حال، لم اكن أبداً من الساعين بجدية وراء المال.

في نهاية مارس سنة 1845، استعرت فأس جاري وذهبت الى الأدغال بجوار بحيرة والدن، في اقرب نقطة من المكان الذي نويت بناء منزلي عليه، ثم بدأت بقطع بعض أشجار الصنوبر اليافعة للحصول على الأخشاب. من الصعب بدأ اي مشروع بدون استدانة، ولكن قد يكون الكرم هو السماح للاخوة بالمشاركة وتقديم العون. حين تخلى صاحب الفأس عنها، اخبرني أنها لديه بمرتبة حدقة العين، ولكني أرجعتها له اكثر حدة مما كانت عليه ساعة استعارتها.

مكان عملي كان على قمة هضبة غطاها الصنوبر وبدت في قاعها البحيرة، وبجوارها حقل حيث تنمو الأشجار المختلفة. لم يكن الثلج قد ذاب من على سطح البحيرة، بالرغم من وجود بعض المساحات التي تشبعت بالماء. تساقط القليل من الثلج أحياناً ولكن جل الوقت، حين كنت أعود من عملي، كانت بدايات فصل الربيع واضحة من التماع شمس الأصيل، وأصوات القنبرة وغيرها من الطيور التي وصلت لقضاء عام جديد في هذه المنطقة المعطاء. ذات يوم، حين انخلع فأسى وانا اقطع شجرة صغيرة، شاهدت ثعبان الماء يهرع للماء ويرقد داخله، ظاهريا بلا اي حركة، مع أنني بقيت لمدة زادت عن ربع ساعة. كان لا يزال في حالة السبات الشتوي، مثل الإنسان الذي يبقى راضيا بحاله السيء حتى يحس بجمال الربيع ويستيقظ ساعياً آنذاك لحياة افضل. وقد شاهدت عدة مرات الثعابين في جليد الفجر واجزاء من أجسادهم لا تزال مخدرة وجامدة، بانتظار الشمس لتدفئتها.

وهكذا قضيت عدة أيام وانا اقطع الأشجار واعد الأخشاب والمسامير، وكل هذا بفأس واحدة، وبدون ان أعاني من أي أفكار أكاديمية عميقة. قطعت الأخشاب بعمق ست انشات، في جل الأحوال من ناحيتين فقط، تاركا بقية الجذع الذي صار اكثر قوة واستقامة من الأخشاب المقطعة. لم تكن أيامي الأولى في الأحراش طويلة، لأنني كنت عادة أتناول طعامي واقرا الجريدة التي استخدمها لحفظه بعد منتصف النهار بمدة بسيطة، جالسا بين أشجار الصنوبر الخضراء التي قمت بقطعهاـ والتي وهبت يديّ وطعامي شيئا من عطرها الفواح. قبل إتمام المشروع صرت صديقا للصنوبر لانني، بالرغم من قطع بعض أشجاره، عرفت الكثير عنه. أحيانا كان احد المتجولين يأتي بعد ان يسمع صوت الفأس ونبقى نتبادل أطراف الحديث، بينما يستريح ضيفي على بعض قطع الأخشاب.

قرب منتصف إبريل، كانت الأخشاب قد أعدت للرفع. وقد اشتريت خلال تلك الفترة كوخ رجل ايرلندي يدعى جيمس كولنز للحصول على الألواح، لانه كان يعتبر من افضل الأكواخ في المنطقة. حين ذهبت لمعاينة المكان، لم يكن الرجل في المنزل. تجولت في الخارج، في البداية بدون ان يلاحظونني من الداخل، لان النافذة كانت مرتفعة وصغيرة ومغطاة بالطين. السقف كان افضل ما في الكوخ، وان كان قد قاسى من الرطوبة حتى بدا طريا. ثم جاءت السيدة كولنز الى الباب ودعتني للدخول. بدا لي المكان من الداخل مظلما ورطبا، وكأن الخشب قد ابتل واحتاج للتدفئة في حرارة الشمس. أشعلت مضيفتي مصباحا لتريني خشب السقف والحيطان وحذرتني من دخول القبو لوجود حفرة عميقة فيه. لاحظت وجود سخان وسرير وكراسي للجلوس ومظلة خفيفة لحماية الجالسين من الشمس، وسمعت مواء قطة الأسرة. ثم قالت لي السيدة كولنز: "هناك خشب جيد فوقك، وخشب جيد تحتك، ونافذة رائعة." أثناء هذا الحديث، رجع جيمس، ثم أتممت صفقة العمر: فدفعت له أربعة دولارات وربع كمقدم لضمان ان الرجل لن يبيع كوخه لغيري قبل صباح الغد. وقد نصحني بالحضور في صباح الغد الباكر حتى أتعامل مع طلبات مالية مبالغ فيها، مثل الضرائب المستحقة وتكاليف الوقود، مؤكداً ان هذه هي المسئولية المالية الوحيدة. في تمام الساعة السادسة صباحاً رايتهم يرحلون وقد اخذوا كل ما في البيت من أغراض، باستثناء قطتهم التي رفضت الرحيل وفرت الى الأدغال. وقد سمعت مؤخرا انها وقعت في شرك لاصطياد الذئاب وماتت.

بدأت بهدم المسكن ذات الصباح، ساحباً المسامير من مكانها، ثم قمت بنقلها شيئا فشيئا الى شاطئ البحيرة حيث ألقيت الأخشاب على العشب حتى يجففها دفء الشمس. طائر مغرد باكر زقزق لي وانا امضي في طريقي. ابلغني أحد الشباب ان الجار سيسسلي الايرلندي استغل أوقات ذهابي لتحويل كل المسامير الصالحة ذات القضبان المدببة وغيرها من المواد الأولية الى جيبه، ثم توقف حين عدت وكأنه قد هب لنصرتي بكلماته اللطيفة، ناظرا لما حوله بلا أي اهتمام.

حفرت الأساس بجانب تل ينحدر نحو الجنوب، متجهاً نحو سهل ترابي حيث لا تتجمد البطاطا خلال فصل الشتاء. ولم تستغرق العملية اكثر من ساعتين. وقد وجدت لذة في هذا العمل لان اعظم المنازل في المدينة، واسوئها، تتشابه في الأساس الذي بُني المنزل عليه، وحتى بعد انهيار البناء، سيبقى الأساس لتذكير الناس بما كان الحال عليه في السابق. ولكن حتى تلك اللحظة، لم اكن قد أتممت سوى المدخل والأساس.

أخيرا، في بداية مايو، وبمساعدة بعض المعارف الذين جلبتهم لا للحاجة، بل للاحتفال بالمناسبة، وضعت إطار المنزل في مكانه. ثم بدأت بسكن منزلي في الرابع من يوليو، لحظة إتمام الحيطان والسقف، الذي حرصت على تغطيته بالريش ودهنه بالزيت حتى لا يتأثر بالمطر. وقد بنيت أساس مدخنة في احد الأطراف أتممتها في أوائل فصل الخريف، وأقفلت السقف والجوانب بطبقة أخري من الأخشاب قبل ان تصير التدفئة ضرورية.

هكذا صار لي مسكن، حجمه عشرة أقدام عرضا وخمسة عشر قدماً بالطول، يمتاز بنافذة كبيرة من كل جانب، وبباب كبير يقابله مكان للمدفأة. التكاليف الدقيقة لبيتي، مستخدما الأسعار الحقيقية، ولكن بدون سعر العمالة التي قمت بها بنفسي، كانت كما يلي، وأنا اذكر التفاصيل لان القليلين يعرفون كم كلفت بيوتهم، وعدد اقل كم كلفت كل من المواد الأساسية للبناء:



8 دولارات
أخشاب طويلة مسطحة

4 دولارات
قطع خشبية صغيرة لتغطية السقف والجدران

1 دولار وربع
شرائح خشب

2 دولار و43 سنت
نوافذ مستعملة مع الزجاج

4 دولارات
ألف قطعة طابوق

2 دولار واربعين سنت (كان هذا سعر مرتفع)
علبتين من الحجر الجيري

31 سنت (اشتريت اكثر من الحاجة)
وبر

15 سنت
حديد للرفوف

3 دولارات وتسعون سنتاً
مسامير

14 سنت
معضلات ومسامير الربط

10 سنتات
مزلاج الباب

1 سنت
طباشير

1 دولار واربعين سنت (قمت بنفسي بالنقل اغلب الاحيان)
النقل

28 دولار و12 سنت ونصف
المجموع:




هذه كانت المواد التي استخدمتها، باستثناء الأخشاب والصخور والتراب التي أخذتها من الأرض التي لا يملكها أحد. لدي حتى الان صندوق كبير مكون مما تبقى من المواد الأساسية بعد بناء البيت.

انتوي بناء منزل لنفسي في قرية كونكورد، بحيث سيكون افضل من أي من البيوت الموجودة، ما ان ارغب بهذا واعرف انه لن يكلفني اكثر من المنزل الحالي.

وهكذا اكتشفت ان الطالب الراغب في مأوى يستطيع إنشاءه وبسعر لا يزيد عن الإيجار الذي يدفعه الان سنويا. ان كنت أبدو متبجحا، فعذري هو أنني أتباهى بقدرة الإنسان على الابتكار. في كلية كامبردج، أجرة غرفة الطالب لا تقل عن ثلاثين دولارا والغرف متلاصقة بحيث يتضايق الساكن من صخب الجيران وقد يكون موقع الغرفة غير ملائم. اعتقد اننا لو استخدمنا الحكمة في هذه الأمور لأثرينا معرفة الطالب بالحياة العملية وقلصنا تكاليفه الدراسية في الوقت نفسه. قيمة ما يتعلمه الطالب اليوم في كامبرج تكلفه -أو تكلف غيره-الكثير، وتقليصها ممكن لو وجدت إدارة جيدة من كلا الناحيتين. الرسوم الجامعية مثلا تظل بنداً كبيراً في قائمة النفقات، بينما يظل ما يتعلمه الطالب عن طريق مصاحبة الأكثر ثقافة ممن يراهم حوله وهو الأهم بلا سعر.

إنشاء كلية في هذا الزمان باهض التكاليف، لان المبلغ المخصص للبناء يجلب كدين، غالبا من شركات كبيرة تقوم بتطبيق قانون تقسيم العمل الذي لا يجب ابدا ممارسته بلا مرونة، وكل هذا يحدث بينما ينتظر الطلاب حتى تفتح الجامعة أبوابها، ثم يقومون بتسديد كل هذه الفواتير الباهظة. اعتقد انه سيكون من الأفضل للطلاب والمنتفعين من الجامعة ان يقوموا ببنائها بأنفسهم. ولكن، سيقول أحدهم، هل يعني هذا ان على التلميذ العمل بيده بدلا من عقله؟ هذا ليس ما اعنيه بالضبط. المهم هو ألا يدرس الطالب نظرية الحياة بلا أي تطبيق بينما يقوم المجتمع بدفع التكاليف. كيف يستطيع الشاب تعلم فنون الحياة بلا تجربة عملية؟ يبدو لي ان هذه التجربة ستنشط العقل، تماما مثل الرياضيات. لو أردت تعليم الطالب عن الآداب والعلوم مثلا، فلن استخدم الطريقة التقليدية وابعثه الى أحد الأساتذة حيث سيرى العالم بعدسة مكبرة، لا بالعين الطبيعية، حيث سيدرس الكيمياء بدون معرفة كيفية صنع الخبز الذي يتناوله. من سيتعلم اكثر خلال شهر، الولد الذي صنع سكينا لنفسه من مادة خام وجدها بعد حفر الأرض، او الآخر الذي حضر كل المحاضرات عن علم الصخور، واشترى السكينة بنقود أبيه؟ حتى الطالب الذي يدرس علم الاقتصاد الدولي يظل جاهلا في علم الاقتصاد الحياتي الذي يمكن اعتباره نوعاً من الفلسفة التي لا تُدرسها الجامعات. النتيجة هي انه سيقرأ كتابات ادام سميث وروكاردو، ويغرق أسرته في الديون.

الحال في الجامعات إنما هو تكرار لما يحدث في الكثير من المجالات الأخرى. هنالك وهم بأننا نجدد، وان كان الواقع هو ان الأوضاع لا تتحسن. اكتشافاتنا هي العاب جميلة تسلينا عن مسئوليات الحياة الحقيقية. نرغب مثلا في تحسين خطوط الاتصال بين ولايتي مين وتكساس، وقد لا يجد سكان تلك الولايتين ما يودون قوله لبعضهم البعض. اسمع الان انهم يريدون بناء نفق تحت المحيط حتى نقترب من العالم الأوربي، ولكن من المؤكد ان الأخبار التي ستصلنا عن طريق المواصلات الجديدة ستكون عن أميرة تعاني من الزكام! يجدر بنا التعلم من قصة ذلك الرجل الذي رغب في محادثة امرأة معروفة بذكائها تعاني من الطرش. بعد ان عانى الآمرين واتعب نفسه واتعبها حتى جلب لها سماعة تسهل له محادثتها، نسى ما كان يود قوله! باختصار، أرى من حولي يبحثون عن وسائل متقدمة للوصول لغايات كان من الممكن الوصول لها بدون تلك الوسائل أساساً.

لمدة زادت عن خمس سنوات رعيت نفسي كليا بعملي واكتشفت انه، عن طريق العمل لستة أسابيع في العام، سأستطيع مواجهة كل تكاليف الحياة خلال ذلك العام. اما فصل الشتاء، واكثر أيام الصيف، فيمكن ان اقضيها في القراءة والتأمل. لقد جربت الدراسة الجامعية واكتشفت ان التكلفة تفوق الفائدة لانني اضطررت لدفع أسعار الثياب التي فرض علي ارتدائها، اما التفكير والأيمان فهذا كان له ثمنه كذلك، لانهم أرادوا مني الاعتقاد بما اعتقدوا به فحسب. ولم اعمل بالتدريس بعد ذلك حباً في التلاميذ، ولكن فقط من اجل المرتب. حاولت العمل أيضا في مجال التجارة، ثم اكتشفت ان النجاح سيتطلب عشر سنوات، وان رحمة الله وجناته ليست مفتوحة عموما للتجار. أتذكر انه، في السابق، حين كنت ابحث عما أستطيع فعله في هذه الدنيا، فكرت كثيراً في جمع ثمار الفراولة ونبتها، لأنني كنت متأكدا أنني سأستطيع فعل هذا وان ما سأجنيه من ربح قليل سيكفي. فاعظم ما أتميز به هو الحاجة للقليل: القليل من اللهو لمعالجة مزاجي المتقلب، والقليل من النقود. بينما اختار معارفي بلا تردد التجارة او غيرها من الحرف المحترمة اجتماعيا، اعتبرت هذه الوظيفة اقرب شيء لما فعلوه: التجول في التلال طوال الصيف لقطف نباتات التوت والفراولة، ثم نقلها للمدنيين الذين يريدون رؤية الأحراش في مساكنهم في المدينة. هذه كانت أفكاري الخاطئة آنذاك، ولكني تعلمت فيما بعد ان التجارة تلعن كل شيء تمسه. لعنة التجارة تحل بالتاجر حتى لو تعامل ببيع الكتب السماوية.

لأنني اعتبرت بعض الصفات مثل الحرية اكثر قيمة من الممتلكات المادية، لم ارغب بهدر وقتي في السعي لاقتناء سجاد غالي وأثاث فاره أو طعام فاخر، او منزل إغريقي فخم. اذا كان هنالك من لن تفسد حياته مثل هذه الممتلكات، ومن يعرف كيف سيستخدمها بعد اقتنائها، سأترك له هذمن الضروري للإنسان ان يأكل لقمة عيشه بعرق الجبين، الا إذا كان من الذين يعرقون بسهولة.

قال لي شاب اعرفه بعد ان ورث بعض الأرض، انه يتمنى الحياة مثلي، لو امتلك القدرة على ذلك. لن انصح أي إنسان بتجربة طريقتي في الحياة، لانه، باستثناء حقيقة ان من سيحاكونني سيرونني أتغير من عام لاخر، ارغب في رؤية اكبر عدد ممكن من أنواع الحياة المختلفة في العالم. ولكنني سأنصح كل فرد بان يتوسم حذرا حتى يجد الطريق الصحيح له، لا طريق الأب ألام او الجيران. الشاب قد يبني او يزرع او يمخر عباب البحار، فقط لا يجب منعه عن ما يرغب به.

التعاون الوحيد الممكن بين البشر سطحي وجزئي، وذلك القليل مثل موسيقى لا يمكن الا للمتفكر فهمها او تقدير جمالها. اذا كان للإنسان عقيدة يؤمن بها وضمير حي، سيتعاون مع الناس على ذلك الأساس، واذا ما كان لديه من هذا الكثير، فسيحيا مثل الباقين في كل زمان ومكان.

يتهمني بعض سكان مدينتي بالأنانية، وانا اعترف انني لم استمتع بالمشاريع الخيرية. قدمت بعض التضحيات بسبب إحساسي بالمسئولية، ولم أجد اي لذة في هذا. هنالك من استخدموا كل ما امتلكوا من قدرات لاقناعي برعاية إحدى الأسر الفقيرة في المدينة. مع الأسف، حين قررت رعاية بعض الفقراء بكل السبل بحيث سيعيشون مثلما أعيش وغامرت حتى بتقديم العرض، قرروا جميعا انه من الأفضل لهم ان يظلوا فقراء. بينما كرس جميع أهل مدينتي أعمارهم لفعل الخير، اعتقد انه من الممكن لواحد منهم ممارسة أفعال اكثر وحشية. من المؤكد أن العقل الذي وهبه الخالق للإنسان يمكن أن يتجلى في شيء افضل من الصدقات. ربما لا يجدر بي، وانا بكامل قواي العقلية، ان أتخلى عن فعل ما اعرف وارغب به، في سبيل إنجاز ما يريده الناس مني.

لو عرفت ان أحدهم قادم لمنزلي بهدف فعل الخير، لهربت منه كما يفر أهل أفريقيا من الرياح الجافة الحارة المسماة بالسموم، والتي تملأ الفم والأنف والأذنين بالتراب حتى يختنق المرء، خوفا من ذلك الخير المزعوم الذي سيجلبه لي. مثل هذا الرجل ليس خيراً بالنسبة لي، وان كان سيغذيني لو كنت أتضور من الجوع، او يدفئني لو عانيت من شدة البرد، او يخرجني من حفرة لو سقطت فيها. أستطيع العثور على كلب يستطيع فعل الكثير من هذا. العمل الخيري لا يعني حب الآخرين بالضرورة. أؤمن بان ما يحزن المصلح الاجتماعي ليس عطفه على معاناة الآخرين، بل عناؤه الشخصي، وان بدا اكثر الرجال خشوعاً. دع الربيع يأتي له، واسمح للشمس بان تشرق على سريره، وستراه آنذاك يتخلى عن رفاقه الكرماء بلا اعتذار. لو خدعوك وانضممت الى أحد الجمعيات الخيرية، لا تدع يدك اليسرى تعرف ما تفعله اليمنى، لانه لا يستحق المعرفة. خذ كل الوقت الضروري لتحسين أحوالك، وافعل الخير فيما تبقى من ساعات قليلة.

لقد فسدت أفكارنا من قراءة قصص الأولياء والقديسين. الأغاني في كتب صلواتنا لعنة ضد عظمة الخالق، والعديد من المصلحين قد نشروا المخاوف في قلوب الناس بدلا من زرع بذور الأمل فيها. لا توجد أغنية تموج بحب هبة الحياة. كل صحة ونجاح ينفعانني، مهما بديا بعيدين ومنطويين في زوايا الكون، وكل مرض وفشل يحزنانني ويضران بي مهما كان عطفي عليهما او حبهما لي. اذا كنا نريد تحرير الإنسان، لنحيا ببساطة وحب الطبيعة حتى نتخلص من السحب المتراكمة على الجبين ونسمح للهواء النقي بالوصول للجسد المريض: لا تبقى على قيد الحياة من اجل الفقراء، ولكن حاول ان تكون من العظماء في هذا العالم.

قرأت عن الشيخ سعدي الشيرازي القصة التالية: سألوا مرة رجلا حكيما: لماذا، من بين كل الأشجار المخلوقة، يصف الشعراء فقط شجرة السرو بالحرية، ويشبهونها بالأسد، مع أنها لا تثمر؟ فاجاب، لكل مخلوق عطاءه، وزمنه الذي سيكون خلاله نضرا يافعا، وخلال الفترات الأخرى سيجف ويذبل. ولكن شجرة السرو تظل دائما محافظة على نظارتها، مثل الأسد متفردة بتميزها. لا تعشق ما هو عابر، لان دجلة سيستمر في تدفقه عبر بغداد بعد ذهاب الخليفة. اذا كان لديك الكثير، أعط مثل النخلة، واذا ما ملكت سوى القليل كن حراً مثل الأسد، يافعاً كشجرة السرو.



أين عشت، وما عشت من اجله:

حين بدأت سكني في الأحراش، اي قضيت الايام والليالي هناك، في الرابع من يوليو 1845، الذي صادف عيد الاستقلال الأمريكي، لم يكن منزلي معداً لاستقبال برد الشتاء القارص، بل فقط للوقاية من المطر، بلا جص ولا مدخنة، وكان الحائط الخشبي منهكاً من مواجهة العواصف وفيه اكثر من ثغرة، مما جعل المكان بارداً في الشتاء. مسكني كان عبارة عن كوخ صغير مفتوح، يصلح لاستقبال الرياح التي كانت قد عصفت بكل ما في طريقها على قمم الجبال، جالبة معها روح الكون مسكن الأفضل يحميني، كنت قد خطوت عدة خطوات الى الأمام في طريق الاستقرار في هذا العالم. كتاب هاريفاسا[6] يقول: "منزل بلا طيور مثل اللحوم بلا بهارات." منزلي لم يكن هكذا. وجدت نفسي فجأة جاراً للطيور، لا لأنني حبستهم في أقفاص، ولكن لاني حبست نفسي في قفص بجوارهم. لم اكن قريبا فقط للطيور التي كثيرا ما تزور الحدائق الخاصة والعامة، ولكن كذلك للطيور الأكثر وحشية وإثارة التي يندر ان تغرد لفلاح: الدج، عصفور الحقل، التناجر والفيري وغيرها.

كنت استمتع بالجلوس بجوار شاطئ بحيرة صغيرة تبعد ميل ونصف من قرية كونكورد وتعلوها قليلا، في وسط دغل كثيف يفصل القرية من مدينة لنكولن، وميلين جنوب الحقل الوحيد المعروف في هذه المنطقة، ساحة معركة كونكورد. ولكن الأدغال أحاطت بي لدرجة ان الساحل الآخر، الذي يبعد حوالي نصف ميل، كان أقصى ما أستطيع رؤيته في الأفق البعيد. خلال الأسبوع الأول، بدت لي البحيرة كبركة جبلية صغيرة، وحين بدأت الشمس بالشروق، شاهدتها تلقي ثوبها الضبابي الليلي، بينما ترقرقت أشعة الشمس على السطح الشفاف الرائق وانسحب الضباب كأشباح أنهت اجتماعا سريا ليليا وتشردت في كل اتجاه في الغابة، حيث بقت متعلقة بالأشجار حتى أواسط النهار. وقد قدرت هذه البحيرة كصديق أثناء تساقط رذاذ الخريف، حينما هدأت الطبيعة، وغطى السحاب الدكن السماء، وبدت الظهيرة كالمساء، وغرد الدج وسُمع صدى غنائه من شاطئ لاخر. وبقيت جالسا أتأمل بينما ازداد لون السماء عمقاً حتى عكس لون مياه البحيرة الداكن التي بدورها كذلك تحولت الى مرآة عكست ألوان الكون المختلفة بعد هطول المطر.

ذهبت الى الأدغال لأنني رغبت في الحياة بطريقة مدروسة، لاتعلم ما تستطيع تعليمي إياه، حتى لا اكتشف، ساعة الموت، أنني لم اعش حياتي. لم ارغب في ان احيا ما هو ليس بحياة حقيقية، فالعمر غالي، ولم ارغب في ممارسة القناعة، اللهم الا إذا لم يكن أمامي أي طريق آخر. أردت ان أعيش بعمق وثبات، بثقة مثل ضربة السيف الحادة، وان امتص المخيخ من الحياة، ان أحاصرها في ركن، وان احددها بأقل متطلباتها. اذا ثبت لي أنها بلا قيم سوى الخسة والطمع، ان أقول تلك الحقيقة في كتابي للعالم، اما اذا ثبت لي أنها عظيمة في سموها، فسأعرف هذا بتجربتي، واقدم وصفا صادقا له. يبدو لي ان اكثر الرجال تسرعوا في الوصول لاستنتاجاتهم بخصوص هذا العالم، وهل هو للخالق أم للشيطان.

نحن نعيش كالحشرات، مع ان المفترض هو اننا قد تطورنا وتحولنا من الحال التي كنا عليها منذ بدء الخليقة. فمن الخطأ ان تكون أهم أسباب ونتائج فضائلنا تعاسة لا حاجة لنا بها يمكن بسهولة تجنبها. حياتنا تضيع تدريجيا في خضم التفاصيل، حتى نفقد القدرة على رؤية الصورة بكامل أجزائها. بدلا من ثلاث وجبات، اذا دعت الحاجة، كل واحدة، وبدلا من مائة صنف اقنع بخمسة، وقلل كل ما هو غير ضروري بنفس النسبة. صارت حياتنا مشتتة مثل الكونفدرالية الألمانية المكونة من ولايات صغيرة تتغير حدودها بين عشية وضحاها الى درجة جهل المواطن بأسم الولاية التي سينتمي لها في صباح الغد. الدولة ذاتها، بكل ما تدعيه من تحسن داخلي مستمر، إنما هي عبارة عن نظام فوضوي توسع من كل ناحية حتى ما عاد قادرا على ضبط نفسه، مثل مخزن تكدست فيه البضائع وقطع الأثاث حتى تحولت الى قيود وشراك وأحاط بها الخراب من الترف والأنفاق الزائد بلا حساب او أهداف سامية تستحق أنفاق المال في سبيل إنجازها. العلاج الوحيد لها هو اقتصاد صارم وبساطة في العيش وسمو في الغاية. الناس يظنون انه لابد للدولة من التجارة، فيصدرون الثلج ويركبون القطار بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة ويتراسلون عبر البريد. سواء أكان هذا التطور هو الأهم، ام الإجابة على سؤال مثل هل يجدر بنا أن نحيا كالقرود، تظل قضية فيها نظر.

إذا لم نضع الأسس ونرصف الحديد ونقدم أياماً وليالٍ للعمل ونستمر في السعي لتحسين وسائل المواصلات، فلن يكون هناك قطار ينقلنا من مكان لاخر. ولكن، يمكن لنا كذلك البقاء في منازلنا والسعي لحل مشاكلنا في ديارنا. آنذاك لن تكون هناك اي حاجة للقطار الذي لا نركبه بقدر ما يركبنا. هل فكرت في من يرقد تحت كل سكة من سكك الحديد؟ تحت كل واحدة، يرقد رجل أمريكي او ايرلندي. السكك مبنية على أجسادهم التي غطيت بالتراب حتى يستطيع القطار السير في طريقه. وكل عام نحفر مقابر جديدة ونبني فوقها السكك حتى يستمتع البعض بالركوب على المقابر والأسرة التي يرقد عليها التعساء.

بكل هذه السرعة المحمومة، نظل غير قادرين على اللحاق بالحياة. نحن مصممون على معاناة آلام التضور، حتى وان لم نكن نشعر بالجوع. يقولون "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود" لتبرير تجميد ألف قرش في البنك اليوم من اجل ربح ستة قروش العام القادم. أما العمل، فليس له عندنا قيمة تذكر. لو دقيت ناقوس الخطر، وصرخت نار! فلن يبقى رجل في ضواحي كونكورد، مهما كانت أعذاره للتغيب هذا الصباح. جمعا واحدا سيأتون، لا لإنقاذ الأرض والأملاك المحترقة من النار، ولكن للتفرج، وان كانت النار تأتى على الكنيسة ذاتها.

ما ان يستيقظ المرء من النوم حتى تسائل عن آخر الأخبار وكأنه حارس مسئول عن الكون: "قولوا لي عن أي شيء جديد حدث لاي إنسان في أي مكان." ثم يتناول القهوة وهو يقرا آخر الأخبار، بدون ان يتصور انه يعيش في أعماق كهف الحياة المظلم وما عاد قادرا على الرؤية بسبب إدمانه للجرائد.

أستطيع الحياة بدون مكتب البريد. فهو لا ينقل سوى القليل من المعلومات المهمة. الحق يقال: لم تصل لي طوال حياتي الا رسالتين استحقتا ثمن طوابع البريد. انا كذلك متأكد من أنني لم اقرأ أخبار هامة في اي جريدة. حين تقرأ مرة عن رجل تعرض للسرقة او القتل او الموت بحادث ما، او عن احتراق مسكن او غرق باخرة، فما الداعي لقراءة المزيد عن ذات الحدث اليومي مرة ثانية وثالثة؟ مرة واحدة تكفي. اذا فهمت المبدأ، فلماذا يهمك تكرار وتعدد الأمثلة؟ جل ما يسمى الأخبار انما هو خوض في سير الناس، ومن يكتبها ويقراها مجموعة من النسوة العجائز اللواتي يتحدثن لقتل الوقت وهن يتناولن الشاي. ومع ذلك، ترى الكثيرين يطلبون آخر الأنباء. منذ بضع أيام، كان هنالك طلب شديد على أخبار أوربا لدرجة ان بعض الغوغاء قاموا بكسر صناديق الجرائد اليومية. من الممكن جدا لأحد المتفكرين كتابة بعض ما ينشر اليوم قبل اثنتي عشر شهراً، أو اثنا عشرة سنة. بالنسبة لأسبانيا، لو عرفت شيئا عن دون كارلوس والقوة العسكرية، ودون بردو وغرناطة، او عن طبيعة احتفالات النصر حين تقام احتفالات مصارعة الثيران، فيمكنك تصور كل الأخبار عن حطام واعادة بناء تلك الدولة.[7] اما بريطانيا، فقد كان آخر خبر هام عنها ثورة عام 1649، واذا كنت قد عرفت قصة الحصاد لمدة عام، فلا داعي لمتابعة ذات الخبر الا اذا كنت من المستثمرين.

الأكاذيب تحترم وكأنها حقائق لا غبار عليها، بينما تبدو الحقيقة مشكوك فيها، مطعون في صحتها. إذا تطلع الناس للواقع فحسب، ولم يسمحوا للخيالات بالسيطرة عليهم، لبدت الحياة وكأنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة. حين نكون اكثر حكمة واقل تعجلا، ندرك أن ما هو عظيم وقيم فقط يمتلك وجوداً ازلياً، بينما تمر المخاوف والسعادات اليومية مثل السحاب العابر. يبني الرجل العادي حياته على وهم طالما بقى غافلا واقفل عينيه، مؤمنا بقوانين الحياة اليومية والتقاليد المعروفة فحسب بلا تفكير. وقد قرأت في كتاب هندي ما يلي: "كان هنالك ابن ملك طُرد من مدينته في طفولته، فاخذه أحد الرعاة الى مدينته وقام بتربيته. بعد ان ترعرع الأمير وبلغ سن الشباب في تلك الولاية، آمن بانتمائه للمجتمع الذي عاش في وسطه. ثم جاء اليوم حين ابلغه أحدهم بحقيقة اصله، فتخلص الأمير من عدم احترامه لنفسه وعرف حقيقة وضعه. بسبب ظروف نشاتها ومكان حياتها، تنسى الروح كذلك حقيقة عظمتها، حتى يأتي أحد المرسلين ويعلمها." يبدو أننا سكان بريطانيا الجديدة كذلك نحيا حياة الانحطاط لان نظرتنا لا تغوص ابعد من السطح الذي تراه. الرجال يحترمون الحقيقة البعيدة، في الأطراف، مع ابعد النجوم في السماء، قبل آدم وبعد الرجل الأخير. في الأزلية هنالك فعلا سمو وحقيقة ولكن الزمان والمكان الحاليين يتطلبان لفهمهما غرس الحقيقة الموجودة حولنا في أعماق العقل وسقيها بالتفكير. الكون دائما يطيع أفكارنا. سواء اسافرنا بسرعة ام ببطء، الطريق ينتظرنا. الشاعر والمبدع لم يبتكرا تصميماً في العقل الا وحوله الأحفاد الى حقيقة واقعة. دعنا إذا نقضي العمر في التفكير والخلق.

دعنا نقضي يوماً واحداً بتروٍ مثل الطبيعة. لماذا نترك ما نريد جانبا ونسمح للتيار بقيادتنا؟ واذا دق جرس الحريق، فما الداعي للركض؟ أسال نفسك الى أي نوع من الموسيقى ينتمي صوت الأجراس الصارخة؟ دعنا نربط الجأش وندفع بقدمنا الى اسفل، عبر طين الآراء والتعصب والتقاليد والخيالات والمظاهر حتى نحس بقوة الصخر الصلب الذي يسمى حقيقة، ثم نبدا بعد الوصول لنقطة يمكننا الوقوف عليها، بإنشاء حائط أو دولة، حتى تعرف الأجيال القادمة كم كان عميقا تراكم المظاهر الخادعة في عصرنا. لو واجهت الحقيقة، لرأيت الشمس تضيء ما حولها من كل جانب، وتشعر بدفئها يخترق قلبك والعظم، وستتعلم كيف تختم حياتك بسعادة. ليكن في ما تروم، الحقيقة، الحياة والموت. لو كنا حقا من الأموات، دعنا نشعر بالبرد في الأطراف، واذا كنا أحياء، فلنمض قدما على الطريق.



جيران غير متحظرين:

الفئران التي أحبت زيارة منزلي لم تكن من النوع الشائع الذي يقال انه أتى مع الأوربيين من إنجلترا الى هذه البلاد، بل من نوع وحشي نادر لا يوجد في القرى والمدن. ولقد أرسلت عينة منها الى عالم مختص بعلم الحيوان واهتم بالموضوع كثيراً. حين كنت ابني منزلي، كان أحدهم قد انشأ عشه تحت المنزل، وقبل بناء الطابق الثاني، كان يحب الخروج بشكل منتظم ساعات الظهيرة لتناول ما يسقط من فتات طعامي على الأرض. ربما لم يكن قد رأى أي رجل من قبل، ولكنه سرعان ما تأقلم وصار يجري فوق حذائي وأطراف بنطالي لالتقاط الطعام. أخيرا، بينما كنت جالسا ذات يوم، تسلق ثيابي ووصل بجوار ذراعي وبدا يدور حول الورقة التي كان عشائي داخلها. وحين أمسكت بقطعة جبن جلس على يدي وقضمها ثم نظف فمه بيده وذهب بعيدا.

في أوائل الصيف، مرت أنثى طائر الحجل الخجول مع أفراد أسرتها عبر نافذتي وهي تحاول جمع أطفالها عن طريق مناداتهم وكأنها دجاجة. الام رأتني وبعلامة صغيرة منها تشتت الصغار فجأة وكأنهم أوراق النبات الجاف الذين فرقتهم العاصفة. عادة تراهم يركضون بصمت، محتميين بالنباتات، محترمين فقط العلامات التي ترسلها لهم الام من بعيد، وحتى ان اقترب منهم بشري، فلن يغيروا اتجاههم حتى يشاهدوا او يسمعوا رد فعل الأم. من الممكن جدا ان تسير بجوارهم وان تتطلع للأحراش التي يختبئون فيها بدون ملاحظتهم. ولقد أمسكت أحدهم مرة في يدي، ومع ذلك ظل اهتمامه الغريزي الوحيد هو إطاعة أمه، وهكذا بقى في يدي بلا خوف ولا ارتعاش. ويقال ان هؤلاء الأطفال، اذا رقدت دجاجة بدلا من أمهم الحقيقية على البيض، يتفرقون ساعة الميلاد ويضيعون لانهم لا يسمعون نداء الأم الذي يتوقعونه. الصياد الجاهل القاسي كثيرا ما يصطاد الأم في هذا الوقت من العام، ويترك هؤلاء الأبرياء ضحية لاحد الوحوش او الطيور التي تجوس الأدغال بحثاً عن فريسة سهلة.

مدهش عدد المخلوقات التي تعيش حرة ووحشية مختفية في الأدغال، ومع ذلك تحصل على غذائها في مناطق قريبة نسبيا من المدن التي يسكنها الإنسان. نجح ثعلب الماء في الحصول على حياة هادئة هنا. يكبر حتى يصير حجمه أربع أقدام، بحجم طفل بشري، ربما بدون ان يراه اي إنسان. عادة، استريح ساعة او اثنين وقت الظهيرة بجوار منبع للماء ينتج عنه مستنقع وبحيرة يبعدان حوالي نصف ميل عن الحقل الذي ازرعه. الطريق للأخير كان عبر مجموعة من حقول الحشيش التي تنحدر شيئا فشيئا حتى يرى المسافر مجموعة من أشجار الصنوبر اليافعة ثم أدغال واسعة تحيط بالمستنقع. لهذا المكان جاءت دجاجة الأرض محلقة على ارتفاع بسيط فوق أطفالها الذين ساروا على الأرض في صف واحد. ولكنها في النهاية، وبعد ملاحظتي، تركت الصغار ودارت حولي مقتربة اكثر فاكثر، متظاهرة تارة بان جناحها قد كُسر، وطورا بأنها تبحث عن الدود في الطين لجلب اهتمامي، مما سيسمح للأطفال الذين بدئوا بالابتعاد بحذر وهدوء عبر البحيرة كما أشارت لهم، بالفرار. أحيانا كنت اسمع صفير الصغار من دون ان أراهم. هنالك أيضا جلس الحمام فوق النبع، أو حلق من غصن لغصن فوق رأسي، اما السنجاب، الذي يجري بسرعة الى اقرب جذع ويختفي خلفه، فقد كان منظره مألوفا. لرؤية كائنات اي منطقة في الأدغال، كل ما تحتاج لفعله هو الجلوس في منطقة جذابة بجوار منابع الماء، وسرعان ما سيبدأ سكانها بعرض نفسهم لناظريك.

شاهدت بعض المشاهد الأكثر عنفا. ذات صباح حين ذهبت الى المكان الذي اجمع فيه الأخشاب، لاحظت نملتين كبيرتين، الأولى حمراء متوسطة الحجم، والأخرى السوداء اكبر حجما، وهما في حالة صراع. كانا قد امسكا ببعضهما البعض وطفقا يتصارعان ويتقلبان بلا توقف. ثم لاحظت أن الأخشاب مغطاة بمتصارعين آخرين. كانت حرب بين نوعين من أنواع النمل، الأحمر دائما ضد الأسود، وأحيانا اثنان من الحمر ضد واحدة سوداء. الأعداد الكثيفة غطت كل الجبال والوديان في مخزن أخشابي، بينما اكتظت الأرض بالجرحى والأموات من كلا النوعين. كانت تلك المعركة الوحيدة التي شاهدتها، الساحة الوحيدة التي خطتها قدماي بينما احتدت نيران الصراع. بدت وكأنها معركة بين الثوار الجمهوريين الحمر والإمبرياليين السود. في كل مكان كانوا في خضم صراع حتى الموت وكل هذا بلا اي صوت أستطيع سماعه. لا أتصور ان البشر يتقاتلون بهذه الضراوة في حروبهم. شاهدت اثنتين وكلاهما في أحضان الآخر، مستعدان للاستمرار في الصراع من ساعات الظهيرة حتى غياب الشمس، او رحيل الروح.

برغم صغر حجمه، ربط البطل الأحمر جسده بجسد الغريم، وبدا ينهش اذرعه قرب الجذور، بينما كان الأسود الأكثر قوة يلقيه بعيدا من جانب لاخر. ثم رأيت، حين ركزت النظر، انه قد قطع بعض أعضاء عدوه. حاربوا بشدة اكثر من الكلاب المتوحشة ولم يبدو ان أي منهم كان على استعداد للتراجع. شاهدت نملةً حمراء تأتى من زقاق تائقة للدم، وكأنها قد قتلت عدوا او لم تبدا المعركة بعد. بدت مثل أبطال أحد الملاحم الإغريقية القديمة، وقد جاءت لإنقاذ رفاقها من معركة غير متكافئة، لان حجم الأسود كان ضعف حجم الأحمر. وهكذا اقتربت بهدوء من اثنين من المتصارعين وانتظرت اللحظة الملائمة حين انقضت على عدوها الأسود وبدأت عملها بجوار جذور اذرعه الأمامية، سامحةً للغريم باختيار ما يريد من أعضائها. وهكذا اتحد الثلاثة طوال الحياة وكأن هناك قوة جذب عجيبة جمعتهم. لم اكن لاستغرب لو علمت ان بعضهم قد عزفوا النشيد الوطني لتشجيع المقاتلين. نفسي استثيرت وكأن المقاتلين كانوا من الرجال، وما بدا لي وجود فرق كبير بينهما. من المؤكد انه لا يوجد في تاريخ الولايات الأمريكية أي معركة يمكن مقارنتها بهذه، سواء من ناحية أعداد الجنود، او مدى حدة الإحساس بالقومية والشجاعة. لم يكن في المعركة اي مرتزقة، وانا متأكد من انهم قد حاربوا لمبدأ يؤمنون به. نتائج هذه المعركة كذلك ستكون هامة وتاريخية للمتصارعين، تماما مثل المعارك التي يشترك فيها البشر.

جلبت الخشبة التي كان الثلاثة يتصارعون عليها لمنزلي، ووضعتها بجوار نافذتي، حتى أرى النهاية. حين وضعت مكبرا فوق النملة الحمراء أدركت ان صدره كان مكشوفا للخصم، الذي كان قفصه الصدري قويا يصعب لخصمه اختراقه، بينما التمعت عينه السوداء بوحشية الحرب. استمرا في التصارع لمدة نصف ساعة، وبعد ذلك، حين تطلعت مرة أخرى، كان المقاتل الأسود قد قطع رئسي عدويه، وكانا يتدليان من كتفيه كوسام قاتم، بينما ظل جسداهما متمسكان به، وسعى هو، بضعف ظاهر نتج عن خسارة العديد من اذرعه، للتحرر، الذي وصل له بعد نصف ساعة أخرى من الصراع. ثم تحامل على نفسه حتى عبر النافذة وذهب. لا اعرف اذا ما كان قد قضى بقية عمره في مستشفى لرعاية معوقي الحرب، ولكن شعوري كان بأنه بدد نشاطه بلا جدوى.

عالما الحيوان المعروفان، كيرلي وسبنس، يقولان ان العارفين اهتموا منذ زمن بعيد بمعارك النمل وقاموا بتسجيل تاريخها ووقائعها. يذكران مثلا: ان البوب بايس الثاني قدم وصفا مفصلا لمعركة حادة بين نوع صغير وكبير من أنواع النمل وقعت بجوار شجرة كمثرى، وانه دعا العديد من العظماء في الكنيسة ووصفوا جميعا ما شاهدوه. يذكران كذلك كاتب آخر، اولاس مانجوس، الذي وصف معركة انتصرت فيها كتائب النمل الصغيرة التي قامت، بعد النصر، بدفن جثث شهدائها، وتركت موتى الأعداء للكواسر. المعركة التي شاهدتها حدثت قبل ظهور قانون فرار العبيد بخمس سنوات.



استنتاجات:

تركت الأحراش لنفس السبب الذي دعاني للذهاب اليها. فقد اكتشفت ان أمامي اكثر من حياة قادمة، ولم يكن هنالك المزيد من الوقت للبقاء في ذات المكان. من المذهل سهولة تعود المرء على طريق واحد يحوله بسرعة الى درب سالك. لم ابق اكثر من أسبوع قبل ان تتعود قدمي على الطريق من بابي الى البحيرة، ومع ان سنوات ست قد مرت مذ خطت قدمي ذلك الطريق، لا تزال آثار قدم الإنسان عليه. وانا أخشى ان يكون الآخرين قد عبروا ذات الطريق وأبقوه سالكا. سطح الأرض سريع التأثر بآثار القدم البشرية. كم ضعفت طرق العالم بعد ان عمقت فيها آثار التقاليد وحولت صلادتها الى تراب؟

تعلمت شيئا مؤكدا من تجربتي: إذا سعى الإنسان بثقة وراء حلمه ورام الحياة التي يسعى لها، فسيرى نجاحا لم يكن يتوقعه. قد يضطر للتخلي عن بعض أغراضه في الطريق حتى يجتاز حدودا خفية، ثم يرى حوله وفي داخله قوانين افضل واكثر مرونة، او ان القوانين القديمة ستتسع وسيصير بالإمكان فهمها بطريقة تسمح بتحرر اكثر، وسيحيا مستمتعا بكل مزايا مستوى أعلى من الحياة. وبقدر ما تصير حياته اكثر بساطة، سيصير الكون الذي يحيا فيه بسيطا بحيث لا يعاني المنعزل من الوحدة ولا الفقير من الحاجة ولا الضعيف من الخوف. اذا كنت قد بنيت قلعتك في الهواء، فلن يضيع جهدك هباء لان البناء الأعظم دوما يناطح السحاب. ما تحتاج له الان هو إنشاء الأساس.

ليس من الضروري للإنسان التحدث باللغة الرسمية الصحيحة حتى يفهمه الناس. وكأن الطبيعة لا تستطيع رعاية اكثر من نوع واحد من الفهم، لا تستطيع ان تمد الطيور وذوات الأربع، ما يحلق وما يدب، بما تحتاج من غذاء، وكأن الحيوانات جميعهم يتحدثون الإنجليزية، وكأن الأمان يكون في الغباء فحسب. اكثر ما أخشاه هو الا تمتلك لغتي الثراء الكافي، لا تتجاوز الحدود الضيقة للتجربة اليومية، حتى تعبر عن الحقيقة التي أؤمن بها. الثراء! هذا يعتمد على الأسوار التي يتعين عليك تجاوزها للوصول لغاياتك. الجاموس المهاجر، الذي يبحث عن الحشيش في مساحات جديدة، ليس بثراء البقرة التي ترفس الدلو وتقفز فوق السور راكضة وراء طفلها الهارب ساعة الحلب. أريد ان أتحدث من مساحة مفتوحة بلا حدود مثل رجل في لحظة يقظة لرجال يقظين. حين نفكر في المستقبل والممكن، سنتعلم الحياة بلا تعريف محدد، وبينما يبدو خيالنا الغامض في الضباب البارد، سيهطل العرق على الجبين من شدة العمل في الشمس. لان اللغة هي عبارة عن ترجمة حرفية وجامدة للحدث، فلابد لكلماتنا من التعبير عن الطبيعة المتغيرة التي تعجز الكلمات عادة في التعبير عنها.

لماذا ننحط الى اكثر ما نراه تبلدا، ما يتفق عليه الغوغاء، ونسميه "الرأي العام"؟ اكثر الآراء عمومية هو ما يتفق عليه جمع النيام ويعبروا عنه بالشخير. أحيانا نعتبر من يتميز بذكاء ونصف مساوياً للأبله الذي يمتلك نصف ذكاء، لأننا نحترم ثلث العقل البشري فحسب. البعض سيشتكون من حمرة الأفق في الفجر الباكر لو استيقظوا في تلك الساعة. اسمع النقاد يقولون ان أشعار كابرا يمكن تحديد مستوياتها بالرمز، والروح، والعقل، والعقائد الشرقية، ولكن في هذا الجزء من العالم، يعتبرون الكلمة التي تحتوي على اكثر من معنى ضعيفة. بينما يسعى المزارعون لعلاج البطاطا الفاسدة، هل سيسعى أحدهم لعلاج العقل الفاسد الذي شاع اكثر بكثير وصار اكثر خطورة؟

لا اعتقد أني وصلت للإبهام في هذه الصفحات، ولكنني سأشعر بالخيلاء اما وجدوا في صفحاتي ما ينتقدوه اكثر مما وجدوا في ثلج بحيرة والدن. تجار الجنوب اعترضوا على زرقتها التي تدل على النقاء، مدعين ان اللون يدل على التلوث، وقد فضلوا ثلج كامبردج، الذي يشبه طعمه الأعشاب التي تجمد في وسطها. طالب النقاء اذا يريد الضباب الذي يغطي الأدغال في الفجر الباكر، ولكنه لا يستطيع تصور الأثير العالي فوق الضباب.

يقولون ان جيلنا عبارة عن أقزام بالمقارنة مع الأجداد. ولكن ما أهمية هذا؟ كلب حي يظل افضل من أسد ميت. هل يقتل الإنسان نفسه لانه ينتمي لجنس الأقزام، بدلا من السعي لان يكون افضل قزم يمكن له ان يكونه؟ دع كل عقل يفعل افضل ما يمكن له تصوره.

لماذا نسعى بهذه السرعة المحمومة للنجاح في مشروعات ميئوس منها؟ إذا لم يستطع الجندي حث الخطى حتى يلحق بالكتيبة، ربما يستمع لطبال آخر. دعوه يسير على إيقاعه الخاص، حتى وان بدا هذا الإيقاع غامضا للآخرين. لا يهم إذا ما كان ينموا شجرة تفاح، او سنديانة. هل يمكننا تبديل الطبيعة التي خُلقنا لها بالطبيعة الموجودة على ارض الواقع. لن ندع ما يسمى بالواقع يغرق سفن أحلامنا. حياة الإنسان مثل ماء النهر: في عام ما، سترتفع أعلى مما يتوقع، وتفيض فوق الساحل مغرقة العالم الذي تصور انه ليس هنالك غيره. الماء قد غطى في السابق الأراضي التي نسكنها الآن. في عمق الصحراء أرى الضفاف التي غسلها التيار في السابق قبل ان تبدأ العلوم بتسجيل كل ما تراه.

لا اعتقد ان الإنسان العادي سيرى كل هذا، ولكن هذه هي طبيعة ذلك الغد الذي لن يكفي مجرد مرور الوقت لجلبه. سيعتبر البعض الضوء الباهر الذي يصيبنا بالعمى لحظة رؤيته ظلاما من نوع آخر. ولكن هنالك أيام أخرى سيبزغ فجرها بغض النظر عما يتصورونه. الشمس التي نراها اليوم إنما هي نجمة صباح الغد.







--------------------------------------------------------------------------------

[1][1] مصدر هذه الترجمة هو: Walden and Civil Disobedience: A Norton Critical Edition. Ed., Owen Thomas. New York: Norton, 1966.

جل المعلومات الموجودة في التمهيد مستقاة من ذات المصدر.

[2] اسم يطلق على مجموعة من الولايات الواقعة في الشمال الغربي من الولايات المتحدة.

[3] من المؤمنين بعقيدة دينية شائعة في الهند.

[4] من انجيل متى 6: 19-20 .

[5] مجازيا. فقد عمل الكاتب في صحيفة يومية، ولذلك سعى لالتقاط اخر الاخبار من القادمين.

[6] اسطورة هندية عن افعال واقوال كاريشنا، تجسيد الرب فيشنو.

[7] احتد الصراع بين دون كارلوس ودون بردو بعد موت ملك اسبانيا، فردناند.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home