Thursday, May 17, 2007

من هو ساركوزي الذي لا يقاوم؟



حاضر على كل الجبهات ويعمل أكثر من 15 ساعة في اليوم


هاشم صالح

يتمتع نيكولا ساركوزي، ابن المهاجر الهنغاري والأم الفرنسية بشخصية قوية، وذكاء حاد، وقدرة على الإقناع قل نظيرها، كما ترى الكاتبة. فهو عندما يخاطبك يتحدث بلغة منطقية وفصاحة لسانية يصعب عليك أن تقاومها. ومن هنا سر قوته وجاذبيته ونجاحه في معترك السياسة. وكان ساركوزي قد أمضى عدة اعوام على رأس وزارة الداخلية الفرنسية. ويحق له بالتالي أن يفتخر بنفسه وإنجازاته بعد أن أصبح أشهر وزير في حكومة جاك شيراك، وبعد أن حقق نجاحات لا تنكر في إعادة هيبة الدولة والمحافظة على الأمن ومحاربة الجنح والجرائم.

فالقرارات التي اتخذها خلال الاعوام المنصرمة أخذت تعطي ثمارها. وأخذ الفرنسيون يشعرون بالأمان والاطمئنان بعد أن فلتت الأمور الأمنية في عهد الحكومة الاشتراكية السابقة. لقد أصبحوا يشعرون أن بإمكانهم الاعتماد على وزير الداخلية الجديد. فهو قادر وكفؤ ويعرف كيف يواجه أصعب المشكلات. إنه يحميهم من المجرمين و"الزعران" الذين كانوا يثيرون الرعب في الشوارع أو في الضواحي المهمشة، في الليل أو في النهار.

وهذا كل ما يطلبه المواطن الفرنسي الأناني البورجوازي المتقوقع على امتيازاته من وزير الداخلية. فهو يريد أن يستمتع بحياته وأملاكه وأرزاقه دون أن يعتدي عليه أحد. وهذا أمر طبيعي. وبالتالي فالجميع يشعرون بأنهم مدينون لهذا الوزير الشاب، الديناميكي، الذي يحارب الأشرار والمجرمين على كافة الجبهات والمستويات. وقد نجح ساركوزي في تحقيق ما عجزت الحكومة الاشتراكية عن تحقيقه طيلة سنوات ألا وهو: القبض على أكبر مجرم كورسيكي في تاريخ فرنسا. وهو الشخص المتهم باغتيال حاكم جزيرة كورسيكا. وقد شكل ذلك سابقة في البلاد. هذا المجرم الشهير يدعى "إيفان كولونا" الذي قتل المحافظ "كلود إيرينياك" بتاريخ 23 مايو/ أيار/ 1999.

ثم نجح نيكولا ساركوزي في تنظيم الجالية الاسلامية المقيمة في فرنسا. ومعلوم أن الاسلام أصبح الدين الثاني في البلاد بعد المسيحية، في مذهبها الكاثوليكي. لقد أصبح المسلمون أكثر عددا من اليهود والبروتستانتيين بما لايقاس. ولكن ليس لهم هيئة رسمية تمثلهم لدى الدولة كما هو الحال بالنسبة للأديان والمذاهب الأخرى. وقد فشل وزراء الداخلية السابقون في حل هذه المعضلة على الرغم من كل محاولاتهم. وحده ساركوزي بجرأته وشجاعته وإقدامه استطاع أن يحقق هذا الهدف. وهكذا جمع كبار ممثلي المسلمين ومعظمهم من المغاربة والجزائريين والتونسيين وفرض عليهم تشكيل المجلس الفرنسي للشريعة الاسلامية. وقد نجح اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية المقرب من الإخوان المسلمين في تحقيق نتائج كبيرة في الانتخابات التي جرت لهذا الغرض. ونجح ساركوزي في ذلك بسبب قوة شخصيته وحزمه. بل وصفق له الإخوان المسلمون أنفسهم !وكان ذلك عندما نظموا مؤتمرهم السنوي ودعوه إليه كضيف شرف. وقد ألقى فيهم خطابا قويا. ولكنه تعرض في أثنائه لمسألة الحجاب بشكل غير مباشر فأثار صيحات العداء ضده داخل الصالة الكبرى من قبل فئة المتشددين. ومع ذلك فلم يتراجع عن كلامه ولم يجبن أمامهم وإنما نظر إليهم عينا بعين وقال: إنكم لا تخيفونني !

ينبغي العلم بأن الديغوليين لهم رصيد كبير لدى الدول العربية، وذلك على عكس الاشتراكيين. وهذه مسألة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار. وربما لعبت دورا في نجاح ساركوزي في تنظيم الجالية الإسلامية الشديدة التشتت والتشعب في الآراء والاتجاهات. وتضيف المؤلفة قائلة بما معناه: إن العرب ميالون إلى الديغوليين تاريخيا ولا يثقون إلا بهم. فهم يحترمون الجنرال ديغول وله هيبة كبيرة عندهم. ولكن ساركوزي اساء الى سمعته العربية كثيرا بسبب موقفه المعادي للمهاجرين والضواحي الفقيرة.

بعد أن نجح شيراك في الانتخابات الرئاسية الماضية توقع البعض أن يعين ساركوزي رئيسا للوزراء. وظل المعني نفسه يحلم بالمنصب لعدة أسابيع. ولكن شيراك الذي يريد الجمع بين حزب الوسط والحزب الديغولي ودمجهما معا في حزب واحد كبير ما كان يستطيع أن يعين شخصية ديغولية كرئيس للوزراء. كان مضطرا لتعيين شخصية من حزب الوسط. وقد وقع اختياره على جان بيير رافاران، تلميذ جيسكار ديستان سابقا. وهكذا أرضى جميع أجنحة اليمين.

والواقع أن طموحه في وزارة الداخلية كان ضخما. فهو كان يريد أن ينجح حيث فشل سابقوه. ولكي ينجح فإنه ينبغي أن يحل بسرعة وبشكل متزامن عدة قضايا صعبة: كقضية انعدام الأمن، وقضية العمال المهاجرين، وقضية جزيرة كورسيكا التي تطالب باستقلالها أو بوضع خاص لها داخل الجمهورية الفرنسية، وقضية تمثيل الدين الإسلامي في فرنسا. وكنا قد تحدثنا عنها آنفا. وفي ذات الوقت كان ساركوزي يريد أن يقيم علاقة جديدة مع جاك شيراك بعد كل ما حصل بينهما من خلافات سابقا. ومعلوم أن ساركوزي انضم إلى معسكر "إدوار بالادور" أثناء الانتخابات الرئاسية لعام 1995 وذلك ضد شيراك منافس "بالادور". ويبدو أن شيراك لم يغفر له تلك "الخيانة" لفترة طويلة. ولكنه في ذات الوقت لا يستطيع أن يستغني عنه لأنه أحد قادة الحزب الديغولي الأكثر نشاطا وذكاء وألمعية.

لقد نجح ساركوزي في تحقيق هدفه الأساسي: إشعار الفرنسيين بالأمان والاطمئنان وتخفيض نسبة الجرائم والجنح والمشاكل في المجتمع الفرنسي. وهذا ما عجز عنه وزير الداخلية الاشتراكي السابق "دنييل فايان".

ثم حقق نجاحا باهرا عندما هزم جان ماري لوبن في مناظرة تلفزيونية شهيرة. ومعلوم أن جميع قادة فرنسا يخشون زعيم اليمين المتطرف بسبب قوة شخصيته وحضوره التلفزيوني الذي لا يضاهى. ولكن ساركوزي ببراعته وذكائه استطاع أن يقنع جميع المشاهدين الفرنسيين بأن "لوبن" قد شاخ وخرف ! وكان ذلك في برنامج تلفزيوني شهير على القناة الثانية، اسمه" 100 دقيقة من أجل الإقناع"، ويديره أحد الصحفيين اللامعين وهو أوليفييه مازرول.

وقد شاهد البرنامج حوالي الستة ملايين شخص !وهذا رقم مرتفع في فرنسا، وبخاصة بالنسبة لبرنامج سياسي. لقد حقق فيه ساركوزي نجاحا باهرا وأقنع الجميع بأنه وزير يفعل ما يقول ويقول ما يفعل وأنه قادر على أن يسيطر على الوضع. باختصار فإن نيكولا ساركوزي حاضر على كل الجبهات. وهو يشتغل أكثر من 15 ساعة في اليوم. والبعض يقول أنه لن يستطيع المحافظة على هذا الإيقاع إلى ما لا نهاية. فصحته سوف تتأثر حتما، وربما مرض من كثرة الشغل.

نقول ذلك ونحن نعلم أنه يعاني من صداع مزمن في الرأس. ولكن ساركوزي لايتوقف عن النشاط والحركة إلى درجة أنه يتعب كل مساعديه وكبار الموظفين في وزارة الداخلية.

ثم هناك بدعة جديدة اخترعها ساركوزي ولم تكن معروفة سابقا ألا وهي: إشراك زوجته "سيسيليا" في الحكم ! فهي مستشارته الشخصية، ومساعدته العملية، ولها منصب رسمي أو شبه رسمي في وزارة الداخلية الفرنسية.

وقد خصص لها التلفزيون برنامجا يبلغ الساعة تقريبا لرصد كل حركاتها ونشاطاتها إلى جانب زوجها. وبدت ذات شخصية قوية وقدرات سياسية واضحة.

بين الأب.. والأم

> البعض يتهمه بأنه منتخب الأغنياء. أليس هو عمدة بلدية "نويي" أرقى حي في باريس؟ وهي قريبة من الشانزيلزيه.ولكنه لا يأبه لهذه الانتقادات. فهو أيضا ابن مهاجر هنغاري وصل إلى فرنسا وليس في جيبه فرنك واحد، بل ولم يكن يعرف اللغة الفرنسية. ولكن والده ترك أمه بعد بضع سنوا من العيش المشترك وبعد أن أنجبت له ثلاثة أولاد ذكور. ونيكولا هو الثاني من حيث الترتيب. أما أخوه الأكبر "غيوم" فهو نائب رئيس اتحاد أرباب العمل في فرنسا: أي اتحاد الرأسماليين الكبار. وهو منصب كبير يحسد عليه. واما أخوه الاصغر فهو طبيب مشهور. ويبدو أن نيكولا ساركوزي متعلق بأمه الفرنسية أكثر من تعلقه بأبيه الهنغاري الذي لم يتجنس بالجنسية الفرنسية الا مؤخرا.. فهو لا يستطيع أن ينام بدون أن يهتف إلى أمه الغالية. اما والده فقد ترك البيت مبكرا وهم أطفال صغار وتزوج من امرأة أخرى، ثم طلق، وتزوج للمرة الثالثة، ثم طلق، وله اولاد من نساء أخريات. إنه مزواج مطلاق يحب النساء على مايبدو. ولكن علاقة إبنه به ليست منقطعة على الرغم من كل ما حصل، وعلى الرغم من أنه تركهم لكي تربيهم أمهم وحدها. ولكنه عانى جدا من غياب الاب في طفولته. ويقال بأنه لم يغفر له ذلك لاحقا الا بصعوبة كبيرة. فجراحات الطفولة لا تندمل بسهولة. فهل اعتذر له أبوه مؤخرا؟ وما هو موقفه وهو يرى ابنه وقد اصبح الان رئيسا لجمهورية فرنسا؟ انه حلم يتجاوز الخيال.

عن المؤلفة

> مؤلفة هذا الكتاب هي أنيتا هوسير، الصحفية الفرنسية المعروفة. اشتغلت في البداية كمحررة في صحيفة «الألزاس» قبل أن تتعاون لمدة عشر سنوات مع «إذاعة فرنسا»، ثم مع القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي. وهي الآن مسؤولة عن القسم السياسي في إحدى الفضائيات الفرنسية المعروفة (LCI) أي قناة الأخبار المستمرة التي تشبه الـ «سي-أن-أن» عند الأمريكان.

وظلت هوسير تلاحق أخبار نيكولا ساركوزي على مدى عشرين عاما ! وهذا يعني أنها تعرف عنه كل شاردة وواردة. وقد حاولت في هذا الكتاب أن تقدم عنه صورة متكاملة، أصله وفصله، ودراساته، ومعاركه السياسية التي خاضها قبل أن يصل إلى هذا المنصب الرفيع الذي وصل إليه أخيراً (كتب الكتاب قبل انتخابه رئيساً للجمهورية)

Tuesday, March 14, 2006

روجيه غارودي - مَنْ أكون في اعتقادكم ؟



روايات خالدة
مَنْ أكون في اعتقادكم ؟
بقلم :كريم السماوي



روجيه غارودي المفكر والفيلسوف الفرنسي المولود في فرنسا سنة 1913 أشهر من أن يعّرف إلى عالمنا العربي، خاصة بعد أن أشهر إسلامه سنة 1982 وأصبح يُعرف بإسم « رجاء غارودي». عاش عمراً طويلاً ينَّظر للاشتراكية والماركسية قبل أن يعتنق الاسلام ،




وهو خصم عنيد للصهيونية ويرى أن ادعاء اليهود حدوث محرقة تعرضوا لها خلال الحرب العالمية الثانية شملت ستة ملايين يهودي أمر مبالغ فيه جداً وهو الأمر الذي أكّده في كتبه التي زادت على الخمسين كتاباً واضطره ذلك إلى مواجهة المحكمة الفرنسية سنة 1988 بدعوى معاداته للسامية، وحكم عليه بغرامة مالية قدرها 50 ألف دولار.


ومن أطرف ما يذكره رجاء غارودي كيفية نجاته من الموت حين أسر من قِبل النازيين في الجزائر خلال الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بين 1940- 1943، فقد قضت الأوامر باطلاق النار عليه وهو في المعتقل غير أن الحراس الجزائريين رفضوا تنفيذ الأوامر وذلك لإيمانهم بأن ليس من شرف المحارب أن يطلق الرجل المسلح النار على أعزل .


وفي روايته « مَنْ أكون في اعتقادكم » يتحدث غارودي عن الجيل الضائع بعد الحرب لذا يقول :« إن بطلي الرئيسي ينتمي إلى جيل يبهرني .. الجيل الذي ولد منتصف القرن تماماً، وقد بلغ الثامنة عشرة سنة 1968، وسيبلغ الخمسين سنة 2000، ولقد عرف المخدرات واشترك في العصابات وسلك طريق « كاتماندو» وعانى أحلام تشي غيفارا، وكذلك قلق العصر النووي.


لقد بدأ كلَّ شيء مبكراً جداً.. ربما وأنا في السادسة من عمري. إنَّ صورة العنف الأولى، الساذجة جداً، التي لا تزال تلاحقني مع ذلك هي صورة لبلابة وردية وبيضاء.. كانت اللبلابة تومئ إليَّ، كانت تبتسم لي بعذوبة مداعبة وكنت أجيبها ببسمة. بالاختصار، بداية حياتي .. زهاء عشرين عاماً من السأم والتمرد.


لم يكن بي جوع للحياة بعد إلا جوع الانتقام. كنا نسرق، وللمرة الأولى في حياتي أحسست أني سعيد مع العصابة، حس المشاركة، كانت السرقة كل يوم هي المأثرة، التجديد، المخاطرة، والانحراف كما يقولون. وكانت في نظري نقيض المدرسة والأسرة والجيش ونظام العمل المسلسل.. كانت هي الحرية..!


ويعيش بطل الرواية مع رفاقه وفي مقدمتهم صديقته بالونا وعددهم جميعاً سبعة، وهم العملاق واثنان من أصغر الشبان وبالونا والحطابان وهو، يعيش لحظات مطاردة شرسة من قبل الميليشيا والجيش وسط الغابة حيث يقوم الحطابان ان بفتح ثغرات عبر الادغال لم يسبق لقدم إنسان أن وطئتها.


ويقول العملاق مشجعاً رفاقه: إن أخطرالاعداء هو الخوف. والأمر الجوهري هو ألا ننتظر المسيح.. إن البشر لا يموتون حقاً إلا إذا فقدوا مبرراتهم في الحياة، وهذا وحده ما يجعلني أعيش بعد.


ألف من رجال الميليشيا والجيش يقتفون أثر السبعة في مضيق حول شلال بأسفل الجبل، يطاردون ستة من الرجال وامرأة نهشهم الجوع الحقيقي، والغاية أن يصلوا أعلى القمة التالية لتحديد طريقهم في الهرب .. إثنان منهما تزل قدم أحدهما فيسحب الثاني معه نحو القاع ويبقى خمسة، امرأة وأربعة رجال. ولكن المطاردة تنتهي بمقتل العملاق وأسر الآخرين حيث يأمر القائد بتجريد بالونا من ملابسها واباحتها لجنده ثم يقوم باغتصابها هو قبل أن يقتلها.يُعزل بطل الرواية في مشفى للأمراض النفسية بانتظار تسليمه لبلده بعد مفاوضات ومساومات،


وهناك في بلده ينقل إلى جزيرة معزولة فيها مفاعل نووي يواجَه بمعارضة قوية لبنائه.. تمرد في الجزيرة.. اضطرابات.. حريق.. جنون القتل.. ثورة.. قادة الثورة.. ودم ولهيب. وسط صيحات: الطاقة الذرية الممركزة تقودنا إلى نظام بوليسي.. ..« سنقرأ عليكَ الحكم الذي سيبرئك. » ويرد عليهم: هل يناسبكم جميعاً أن أكون مجنوناً وألاّ أكون قد ارتكبت أية جريمة. وألاّ يكون ما تسمونه اعترافاتي إلا تخيلات وخزعبلات خادعة.؟!!..


لم يكن باقياً لي بعد إلا أن أموت أمام نفسي، أمام مشاريعي، أمام قدري. أما قائد الشرطة فكان قد أفضى بي إلى قاع اليأس، حتى الجنون. عليَّ أن أكون ما كان هذا الشعب ينتظره مني، كان بحاجة وهو في تلك المرحلة من كفاحه إلى بطل، إلى نبي، ولم يكن شيء قد أعدنّي لهذه المهمة. لقد كان كافياً بمناسبة محاكمة مبتذلة أن يطرح رجل هومع ذلك قاتل سؤال « اللماذا » حتى ينهار عالم لا هدف له..


وردا على العصيان والثورة قامت القاذفات بقصف الجزيرة وأصابت إحدى القذائف المحطة النووية في الصميم، صعد بعدها الدخان لبضعة كيلومترات ثم انتشرت بقعة الفطر السوداء وامتد قطاع الموت على مسافة أربعين كيلومتراً. توقفت الحياة في كل مكان، فيلم من أفلام الرعب الحقيقية. مئات الحرائق، دمروا كل شيء وخمسة وعشرون ألف قتيل في الساعات الأولى وبات الخوف من تفشي الأوبئة مع كل تلك الجثامين والتشوهات، لقد أصبح الجميع على أرض الجزيرة ينتمون إلى هذه الفوضى، غرباء في عالم الأموات.


وتساءل البعض هل سنصّنف منطقة ملوثة مثل ناجازاكي بعد القنبلة. ولكن ليس ثمة من يرغب في إجلاء الناس هناك، بعدها وضع الجميع تحت رحمة الحصار والحجر الصحي بعد أن باتوا وباءً محتملاً.. استمر الحصار لعشرين عاماً. وهناك عاش جيل اللاعودة.


وفي خضم الاحداث هرب من تمكن من الهرب، ومن شدّة الذعر ترك البعض أولادهم أو ماتوا وتركوهم للضياع والتيه، استطاع بطلنا أن يتبنى طفلين ولد سمى نفسه مارك وفتاة لم تعرف اسمها فسماها بالونا إحياءً لذكرى حبيبته وشاهدهما يكبران مع الجزيرة. أحب مارك بالونا الجميلة


ولكن هواها كان مع دانيال الموسيقار والرسام ابن الخوري، ظلَّ مارك مخلصاً لحبه حتى أنها عندما تعرضت لحادث وهي تراقص دانيال فداها بدمه فعاشت هيَّ وفقد مارك حياته، وهو الأمر الذي جعلها تًصدم لعظمة حب مارك لها ثم عزفت عن علاقتها بدانيال رغم وجود الجنين في أحشائها. وحين ولدت أسمت ابنها « مارك » لأنها عرفت في مارك الحب الكامل والحقيقي ولكن بعد موته.


بلغ بطل الرواية الذي لم يجعل له المؤلف سميا لأنه أراد أن يكون أي واحد منا، بلغ الخمسين، شاخ فيها قبل أوانه وهو يتذكر كيف كان يجب أن يُحكم عليه بالموت قبل عشرين عاماً. ويتذكر الثورة وقد آمن أن الطرق المختصرة تكلف الثورات غالياً، حتى أنه كان يقوم بمشاهدة صوره عبر تلك الفترة لجرد أخطائه ويرى فيها مرآة للأمل المكسور.


وخلال تلك السنوات الطويلة تكّيف البعض مع طبيعة الجزيرة وقام بعضهم باختراعات علمية متطورة كما اكتشف البعض الآخر طرقاً لحل مشكلة المجاعة في العالم وكانوا يودون لو يبادلون هذه الاختراعات والاكتشافات بحريتهم واكتساب حقوقهم ليكونوا أسياد بلدهم غير أن الرد كان إنذاراً أرسلته القارة بالراديو والتقطته ألوف الأجهزة لاحتلال الجزيرة على الرغم من معرفتهم بعدم وجود جيش أو قوة تقاومهم. ارتأى البعض أن يواجهونهم خاصة وأنهم متحدون في وجه التعذيب والجوع والتنكيل والموت :


« فهم يريدون تدميرنا اليوم بعد عشرين عاماً من الحصار لأن وجودنا بات يفضح ضلالهم. »


كريم السماوي

Friday, March 03, 2006

سيرة حياة بطرس الأكبر



سيرة حياة بطرس الأكبر
تأليف :لندسي هيوز



مؤلفة هذا الكتاب هي السيدة لندسي هيوز استاذة التاريخ الروسي في معهد الدراسات السلافية والشرقية الاوروبية التابع لجامعة لندن. وكانت قد نشرت سابقاً كتاباً بعنوان «روسيا في عصر بطرس الاكبر» وقد اصبح كلاسيكياً الان. وهو من مطبوعات جامعة ييل.


وفي هذا الكتاب الجديد تقدم الباحثة المذكورة السيرة النهائية لمباني روسيا الحديثة وهي تلقي اضواء مشعة على شخصية بطرس الاكبر وعصره وظروفه وانجازاته في آن معاً. ينقسم الكتاب الى اثنى عشر فصلاً مع مقدمة وخاتمة.


الفصل الاول مكرس للحديث عن ولادة القيصر بطرس الاكبر ونشأته بين عامي 1642- 1689. وهنا نلاحظ ان المؤلفة تستفيض في الحدث عن طفولته واحوال روسيا عام 1672. ثم تنتقل بعدئذ للتحدث عن شخصيته بعد ان كبر واستلم مقاليد روسيا. وعلى مدار الفصول التالية تتحدث المؤلفة عن حربه مع السويد بين عامي 1700 ـ 1708


وعن المكانة التي احتلها في اوروبا وعن انجازاته العمرانية والثقافية والحضارية، الخ.وتقول الباحثة بأن بطرس الاكبر كان عرضة للمديح او الانتقاذ وبعد موته كبقية الشخصيات الكبيرة في التاريخ. فالبعض كان يذمه ويعتبره عدواً للدين، والبعض الآخر كان يرى فيه باني روسيا الحديثة.


ومن المعلوم ان الامبراطورة الشهيرة كاترين الثانية صديقة ديدرو وفولتير وبقية فلاسفة التنوير كانت معجبة بسلفها الراحل وكثيراً ما كانت تذكره وتحاول الانتساب الى امجاده. وفي القرن التاسع عشر راح المحافظون الروس يلومونه لانه قسم روسيا الى قسمين: قسم النبلاء المتأوربين او المستغربين، وقسم الشعب الجاهل والفقير والخاضع للطقوس الدينية الارثوذكسية.


ولكن عندما اصبحت روسيا في خطر عام 1812 اثناء غزو نابليون لها، وكذلك عام 1941 اثناء غزو هتلر، راح الروس يتذكرونه ويستمدون الحماسة من وطنيته وبطولته.


وعندما اندلعت الثورة البلشفية عام 1917 راحت الدعاية الرسمية تشوه سمعته في المرحلة الاولى وتتحدث عن قسوته واستبداده وقمعه لشعبه.


ولكن شيئاً فشيئاً راحت الصورة تتغير لكي تصبح اكثر موضوعية وواقعية.


وعندئذ اخذوا يتحدثون عن محاسنه ومساوئه في ذات الوقت وعن الطابع الايجابي لانجازاته.


وبعد الحرب العالمية الثانية اصبحت شخصية بطرس الاكبر احدى اهم الشخضيات في التاريخ الروسي. والواقع انه اثر على تاريخ بلاده اكثر من اي قيصر آخر منذ اخرج روسيا من القرون الوسطى وادخلها في العصور الحديثة وحقق لها مكانة بين الامم الاوروبية.


على المستوى الشخصي كان القيصر بطرس الاكبر طويلاً جداً بل ويصل طوله الى حوالي المترين. وكان قوياً جداً من الناحية الجسدية. وكان بذيء اللسان على ما يبدو وكثير الجلبة والحركة. ولكنه كان يتمتع بارادة كبيرة لخدمة الدولة وتحقيق الانجازات العديدة.


وقد خاض بطرس الاكبر حروباً عديدة كانت اهمها حرب مع السويد التي دامت حوالي العشرين سنة «1700-1721» وقد خرج منها منتصراً واصبحت بلاده اهم قوة اوروبية في الشرق. بل وبدءاً من عهده ابتدأت روسيا تصبح قوة عظمى بالاضافة الى الامبراطورية العثمانية، وفرنسا، وانجلترا، وبروسيا، والنمسا...


وقد زار بطرس الاكبر اوروبا في بداية عهده عندما كان لا يزال شخصاً مغموراً.


وكان يقول بانه جاء الى هانوفي، وامستردام ولندن وبراغ وفيينا وباريس، لكي يرى ويتعلم من الحضارة. وكان ذلك بين عامي 1697-1698. ولكنه بعد عشرين سنة من ذلك التاريخ ظهر على العالم بصفته احد كبار الاباطرة. ثم اسس مدينة باسمه تدعى سان بطرسبورغ لكي تصبح عاصمته.


ومعلوم ان الشيوعيين غيروا اسمها فاصبح لينينغراد. ولكن بعد سقوط الشيوعية عادت الى اسمها الحقيقي من جديد.


كان بطرس الاكبر يقول: لا معنى لاي امبراطور ان لم يكن يمتلك جيشاً ارضياً واسطولاً بحرياً. والواقع ان تجربته مع السويد اثبتت له صحة ذلك. فقد هزمته اثناء المعارك الاولى بسبب ضعف الاسطول الروسي آنذاك.


ولهذا السبب لجأ الى تقويته وادخال الصناعة الى البلاد. وبعدئذ استطاع ان يحقق الانتصار. والواقع انه قام بجملة من الاصلاحات. فالطرقات كانت معدومة وسيئة في روسيا. ولذلك امر بشق الطرقات وتحسينها والمصانع كانت معدومة ايضاً فأمر بانشائها من اجل تلبية الحاجيات المدنية والعسكرية ولم يكن يتردد في جلب المهندسين والخبراء من اوروبا ودفع الاموال الباهظة لهم لكي يقدموا خبرتهم وخدمتهم الى روسيا. وهذا ما فعله محمد علي بعد قرن من ذلك التاريخ في مصر.


كما ادخل بعض الاصلاحات على الكنيسة الارثوذكسية ذاتها. وكان يتهم رجال الدين بالكسل والبطالة. ولذلك وضع على رأس الكنيسة شخصاً علمانياً مقرباً منه. وكان ينقل اليه كل ما يقوله كبار رجال الدين عن الملك.


ثم قضى على استقلالية الكنيسة واجبر جميع اعضاء المجمع الكنسي على ان يقسموا اليمين امامه.. وكان منزعجاً من غنى طبقة رجال الدين ولذلك دعاهم الى تقليص نفقاتهم.


ثم راح بطرس الاكبر يصلح نظام التعليم لكي يخرج روسيا من جهلها الكبير بالقياس الى الامم الاوروبية المتحضرة كالمانيا «بروسيا»، او فرنسا، او انجلتر...


ولكي يسرع من العملية فانه راح يرسل البعثات الى الخارج. وكانت كل بعثة علمية تشمل «150» طالبا روسيا. والبعض كان يذهب الى مصانع هولندا وجامعاتها، والبعض الآخر الى مصانع انجلترا وجامعاتها، والبعض الآخر الى برلين لتعلم اللغة الالمانية، والبعض الآخر الى مشارف آسيا والشرق الاوسط من اجل تعلم العربية.


واما ايطاليا وفرنسا فقد استقبلتا طلاب البحرية وفن العمارة. ثم بعد عودة البعثات من الخارج كان اعضاؤها ينجزون مخططات القيصر ويخدمون الدولة بصفتهم عسكريين، ومهندسين علميين، او صناعيين، او مهندسي عمارة وبناء، الخ،


وكان القيصر يحلم قائلاً: في يوم من الايام سوف استغني كلياً عن الخبراء الاجانب بعد ان يتعلم ابناء شعبي كل العلوم والصناعات والحرف..


فالواقع انه كان دائماً يوظف الاجانب فيما يخص بعض المجالات الدقيقة والصعبة التي تخص صناعة الاسلحة مثلاً، او بناء المشاريع الضخمة.


ولكي يسرع حركة الافكار ويخرج روسيا من جهلها المزمن فان بطرس الاكبر امر بترجمة الف كتاب علمي، وتكنولوجي، وتاريخي والغريب والعجيب هو انه اعطى نصائحة في الترجمة الى رئيس المشروع قائلاً: لا ينبغي ان تترجموا النص حرفياً اي كلمة، كلمة، وانما ينبغي ان تترجموا فحواه بشكل يصبح مفهوماً في لغتنا بل وكأنه مكتوب بها مباشرة. وهذه هي اكبر نصيحة يمكن ان تقدم لمترجمه. وكل من مارس عملية الترجمة يعرف ان الترجمة الحرفية ضارة ولا تفيد في شيء.


وبالتالي فالترجمة بتصرف، اي ترجمة المعنى لا الحرف، هي الاساس.


ثم قام بطرس الاكبر باصلاحات اخرى عندما فتح مستشفى عسكرياً في موسكو واضاف اليه مدرسة للجراحة واشياء اخرى. ثم فتح الصيدليات في كل المدن الكبرى في البلاد. واول جريدة روسية ظهرت في عهده، وكذلك اول مسرح.


ثم فرض على الرجال حلق لحاهم ولبس الزي الغربي كما سيفعل مصطفى كمال اتاتورك بعده بمئتي سنة تقريباً! باختصار فانه راح يقلد اوروبا في كل شيء لكي يلحق بركب الحضارة.


فقد كان يحلم بتحويل بلاده الى جنة تشبه باريس التي رآها بأم عينيه او تشبه امستردام، وبرلين، ولندن، وبقية العواصم الاوروبية.


ثم تقول المؤلفة بما معناه: بالاضافة الى ضخامته الجسدية وشهيته التي لا تشبع وشهواته كان بطرس الاكبر معروفاً بتعطشه الى المعرفة وقدرته الرهيبة على العمل.


وبعدئذ عرفت اوروبا انه ظهرت على مسرح التاريخ قوة عسكرية عظمى يحسب لها الحساب.


وبالنسبة للشئون الدينية كان بطرس الاكبر انساناً ينتمي الى القرن الثامن عشر اكثر مما كان ينتمي الى القرن السابع عشر. لقد كان عقلانياً اكثر مما كان صوفياً. وكان مهتماً بتطوير التجارة والازدهار الوطني لروسيا اكثر مما كان مهتماً بالعقيدة الدينية او شئون الكنيسة الارثوذكسية.


وبالتالي فقد كان تنويرياً قبل التنوير. ولكن هذا لا يعني انه كان معمداً! فالواقع انه كان يؤمن بالله ويرى ارادته في كل شيء. ولكنه لم يخض اي حرب باسم الدنيا او دفاعاً عن المسيحية الارثوذكسية كما كان الاباطرة يفعلون في القرون الوسطى.


هذه هي حالة روسيا في بدايات القرن الثامن عشر عندما استلم مقادير أمورها بطرس الاكبر ولذلك فبعد عودته من رحلته الى اوروبا قرر ان يغير الوضع من بدايته الى نهايته.


وطيلة حياته كلها عمل جاهداً لكي تصبح روسيا اكثر غنى وازدهاراً وقوة ومنعة ولذلك فإن الناس لا يزالون يتذكرونه حتى الآن وحتى قادة روسيا يعرفون بأنه كان النموذج الذي ينبغي احتذاؤه والبعض يقارن الآن بين فلاديمير بوتين وبينه فبوتين يريد ايضاً ان يلتحق بالغرب، ان يجعل روسيا في مستوى بلدان اوروبا واميركا ولكن روسيا حتى الآن تبدو عاجزة عن ذلك.


والواقع ان بطرس الاكبر كان يطمح الى رفع مستوى حياة الشعب الروسي لكي تصبح في مستوى حياة الشعب الهولندي او الانجليزي، او الفرنسي، مثلما يطمح بوتين الى ذلك حالياً.


ولا يزال هذا الحلم يلاحق قادة روسيا حتى بعد مئتي سنة او ثلاثمئة سنة من ظهوره والشيء الغريب هو ان اليابان نجحت في تحقيق ذلك في فترة زمنية قصيرة نسبياً ولكن ليس روسيا، على الأقل حتى الآن.


والواقع ان الخطط الصناعية لبطرس الاكبر كانت تهدف الى زيادة ثروات البلاد فقد رأى بأم عينيه ان جباة الضرائب يمصون دم الشعب الفقير وانه لا يمكنه ان يثقل كاهل الشعب بضرائب اخرى جديدة وبالتالي فلم يعد امامه من سبيل للحصول على المال الا الصناعة.


ولكن بعض مصانعه نجحت والبعض الآخر فشل ولم يكن من السهل عليه ان يلحق بأوروبا الغربية التي سبقت روسيا الى التصنيع والتقدم بفترة طويلة ولا تزال هذه المشكلة تلاحق القادة الروس حتى الآن.


فروسيا من اغنى بلدان العالم بالموارد الطبيعية كما انها تحتوي على الغاز والبترول بكميات كبيرة وعلى الرغم من ذلك فهي بلد فقير قياساً الى اوروبا او اميركا فما هو السبب يا ترى؟ البعض يقول ان الفترة الشيوعية التي استمرت سبعين عاماً دمرت اقتصاد البلاد.


والواقع ان تأميم كل وسائل الانتاج واتباع سياسة الاقتصاد الموجه لا يشجع الناس على العمل او الاستثمار او الانتاج، ولهذا السبب فإن روسيا بعد سقوط الشيوعية عادت الى النظام الليبرالي الرأسمالي فهل ستنجح يا ترى بعد ان تخلت عن الاشتراكية والشيوعية؟


هل سيتحقق حلم بطرس الاكبر في ان تصبح روسيا دولة حديثة بالكامل كانجلترا وهولندا وألمانيا وفرنسا؟


هذا هو السؤال، فالواقع ان روسيا استطاعت في عهد الاتحاد السوفييتي ان تصبح قوة عسكرية من الدرجة الأولى ولكنها لم تستطع ان تلحق بالغرب من الناحية الاقتصادية والحضارية وهنا تكمن ازمتها.


الكتاب: بطرس الاكبر


سيرة حياته


الناشر: مطبوعات جامعة بيل 2004


الصفحات: 285 صفحة من القطع الكبير



Peter The Great A Biography




Lindsy Hughes




Yale University Press 2004









P. 285

كارل بوبر - فيلسوف



كارل بوبر
تأليف :هاكوهين ملاشي هايم



مؤلف هذا الكتاب هو الباحث هاكوهين ملاشي هايم احد المختصين بفلسفة العلوم او ما يدعى في اللغات الاوروبية بالابستمولوجيا وهو هنا يتحدث عن احد كبار فلاسفة العلم في القرن العشرين كارل بوبر ومعلوم ان هذا المفكر ولد في فيينا عام 1902 ومات في لندن عام 1994 عن عمر مديد وقد شغل القرن العشرين كله بأبحاثه واكتشافاته.


وكان قد درس في بداية شبابه بجامعة فيينا حيث حصل العلم في مجال الفلسفة والفيزياء وحتى الموسيقى وفي الوقت ذاته كان يشتغل كنجار أو كعامل اجتماعي لكسب رزقه وتكميل تعليمه ثم نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1928 ودرس في نيوزيلاندا من عام 1937 الى عام 1945،


وبعدئذ اصبح استاذاً في جامعة لندن حيث درس علم المنطق ومنهجية العلوم في عام 1945 الى عام 1969. وفي الوقت ذاته كان يعطي سلسلة محاضرات عامة في كبريات الجامعات الاميركية، وفي سيرته الذاتية يقول كارل بوبر بأنه عاش حياة سعيدة على المستوى الشخصي والعائلي، وحياة غنية ومتوازنة على المستوى المهني او الوظيفي، ولكنه كان دائماً يخشى من التهديدات السياسية، فقد عاش في عصر مضطرب شهد حربين عالميتين بالاضافة الى الفاشية والنازية والشيوعية.


والعارفون بالامر يعتبرونه اكبر فيلسوف للعلم في القرن العشرين ويرون فيه ايضاً فيلسوفاً اجتماعياً وسياسياً كبيراً، وقد عارض بشدة الاتجاهات الارتيابية والنسبوية والتقليدية في مجال العلم والاخلاق، كما انه انتقد الايديولوجيات الاستبدادية التوتاليتارية، ودافع عما يدعوه بالمجتمع المفتوح او المنفتح.


في اثناء دراساته الجامعية الاولى اعلن بوبر عن ماركسيته لفترة قصيرة من الزمن وقد غير رأيه بعدئذ بسبب اكتشافه للطابع التلقيني او العقائدي للشيوعية التي تقولب الاذهان قولبة. ولكنه احتفظ من الماركسية بالفكرة الاساسية ألا وهي: الاهمية التي توليها للمعطيات الاقتصادية، ولصراع الطبقات ولاهتمامها بالتاريخ، وعندما غزا هتلر النمسا وضمها الى المانيا فكر كارل بوبر بالهجرة والرحيل بسبب اصوله اليهودية.


ولهذا السبب فإنه دافع عن النظام الليبرالي الديمقراطي ضد كل انواع الانظمة الشمولية سواء أكانت شيوعية، ام فاشية، ام نازية، وراح بوبر يقول بأن دراسة الماركسية للتاريخ ليست علمية على عكس ما تتوهم. فتنبؤات ماركس بالمستقبل لم تتحقق، ونظريته المزعومة بأنها علمية تدهورت وانحطت وتحولت الى نظرية علمية مزيفة وحتى التحليل النفسي الذي اخترعه فرويد لم يحظ برضا بوبر فقد اعتبره نظرية لا علمية مثله في ذلك مثل الماركسية.


كان اول كتاب نشره بوبر يحمل العنوان التالي: منطق الاكتشاف العلمي، وقد ألفه باللغة الالمانية التي هي لغته الاصلية، وعنوانه في هذه اللغة يختلف عن الترجمة الفرنسية فهو محدد على النحو التالي: منطق البحث، وفيه يبلور نظريته المشهورة التي تقول بما معناه: لكي تكون نظرية ما علمية حقاً ينبغي ان تكون قابلة للنقض أو الدحض!


وهي نظرية تبدو تناقضية للوهلة الاولى، ولكنها ليست كذلك في الواقع، فالنظريات العمومية، أو غير الدقيقة، هي وحدها التي لا يمكن دحضها لانها غير قائمة على براهين ملموسة. ان نظرية نيوتن التي ظلت علمية لمدة قرنين من الزمن والتي جاءت نظرية اينشتاين لكي تنقضها هي اكبر دليل على ذلك.


فنظرية نيوتن قدمت شرحاً متماسكاً للكون، واكتشفت قوانينه العلمية.


ولكن فيما بعد جاء عبقري آخر واكتشف نظرية اخرى حلت محلها دون ان تلغيها تماماً، وربما جاء احدهم فيما بعد ونقض نظرية اينشتاين او اكتشف بعض ثغراتها ونواقصها وقدم تفسيراً آخر اكثر دقة عن العالم وهكذا دواليك، فلا العلم ينتهي ولا النظريات تتوقف.


وبالتالي فقابلية نظرية ما لان تدحض ليس دليلاً على خطئها بحسب منظور بوبر وانما على صحتها وسلامتها وعافيتها، واما اذا ما فرضت نفسها وكأنها صحيحة بشكل مطلق، أو الى ابد الآبدين فإن ذلك يعني انها غير صلبة وغير صميمة وانما هي عبارة عن ايديولوجيات طوباوية لا علاقة لها بالعلم إلا قليلاً.


هذه هي النظرية الابتسمولوجية التي اشتهر بها كارل بوبر، ولكن الشيء الذي ازعج فلاسفة فرنسا ليس هذه النظرية بالضبط وانما الهجوم العنيف الذي شنه بوبر على هيغل وماركس واوغست كونت ومعظم فلاسفة التاريخ. فهؤلاء كانوا يعتقدون بأن التاريخ يسير طبقاً لقوانين معينة، وانما يكفي ان نكتشفها لكي نستطيع التنبؤ بحركته ومستقبل الايام.


وعلى هذا النحو كان اوغست كونت يعتقد بأن البشرية تمر بثلاث مراحل تطورية متتالية: المرحلة الاسطورية او الغيبية، فالمرحلة الميتافيزيقية فالمرحلة الوضعية او العلمية وهي اعلى المراحل وارقاها واما ماركس فكان يعتقد بأن الرأسمالية بعد ان تبلغ ذروتها في التطور والاستغلال سوف تنحدر وتنمط لكي تحل محلها ديكتاتورية البروليتاريا، وهكذا تنتصر القوى العادلة والحقيقية للتاريخ على قوى الاستغلال والظلم.


واما هيغل فكان يعتقد ايضاً بأن التاريخ سائر نحو انتصار العقل والمعرفة المطلقة لا محالة، وضمن هؤلاء جميعاً جاء كارل بوبر لكي يقول بأنه يستحيل علينا التنبؤ بقوانين التاريخ أو بمستقبله مسبقاً لسبب بسيط هو انه مفتوح على كافة الاحتمالات، وبالتالي فلا يمكن سجنه أو اغلاقه في احتمال واحد، وكم تنبأ بعضهم بمستقبل التاريخ فاذا بالتاريخ يمشي في اتجاه آخر ويكذب نبوءته ولكن ألا يبالغ كارل بوبر في احتقاره لفلسفة هيغل وكبار فلاسفة التاريخ؟


ألم يستطع هيغل ان يتنبأ ببعض الاحداث الاساسية، أو بالاتجاه العام لحركة التاريخ؟ ألم تصدق نبوءته في خطوطها العريضة؟ وما معنى الفيلسوف الكبير ان لم يكن قادراً على رؤية ما لا يراه الآخرون في عصره، في الواقع ان ميزة الفيلسوف على الانسان العادي هي انه يستطيع ان يستبق حركة التاريخ، يستطيع ان يرى البعد البعيد بفضل الحس الداخلي الذي يمتلكه او الحدس الرؤيوي الشفاف،


وهذا ما لايفهمه بوبر او يرفض ان يأخذه بعين الاعتبار وبالتالي فعلى الرغم من اهمية افكاره واطروحاته إلا انه ظلم هيغل كثيراً، وربما ماركس ايضاً وأوغست كونت.


الكتاب: كارل بوبر


الناشر: مطبوعات جامعة كمبردج 2003


الصفحات: 624 صفحة من القطع المتوسط



karl popper




Hacohen malachi haim




Cambridge university press 2003




p. 624

بلادي المعاد اختراعها - تشيلي



ايزابيل الليندي تتذكر تشيلي في كتاب جديد
بلادي المعاد اختراعها
تأليف :ايزابيل الليندي



مؤلفة هذا الكتاب هي الروائية ايزابيل الليندي ابنة عم الزعيم التشيلي سلفادور الليندي الذي أسقطه الاميركان عن طريق انقلاب عسكري شهير عام 1973 ونصبوا محله الجنرال الفاشي بينوشيه وهو الانقلاب الذي نظمته المخابرات المركزية الاميركية السيئة الذكر وادى الى مصرع الزعيم الوطني الاشتراكي.


وقد اشتغلت ايزابيل الليندي في البداية كصحفية وكاتبة مسرحية بل وكاتبة قصص للأطفال في التشيلي في عام 1974 وبعدئذ هاجرت الى فنزويلا حيث عاشت حتى عام 1984 ومن المعلوم انها كانت قد ولدت عام 1942.


ثم ابتدأت تكتب الروايات للكبار عام 1982 عندما اصدرت الرواية التالية: بيت الارواح او بالاحرى بيت الأشباح وقد صدرت اولاً باللغة الاسبانية قبل ان تترجم الى اللغات الاخرى.وبعدئذ توالت رواياتها الواحدة بعد الاخرى ونالت شهرة عالية وترجمت الى الفرنسية والانجليزية ولغات اخرى نذكر من بينها: الخطة اللانهائية، ايفالونا، باولا، حكايات ايفالونا، عن الحب والظلال، بنت القدر، صورة عتيقة، أفروديت، الخ.


وفي هذا الكتاب الجديد تتحدث الكاتبة التشيلية الشهيرة عن طفولتها وشبابها الاول والاحوال السياسية في تشيلي وانقلاب عام 1977 بالطبع واشياء اخرى كثيرة.وقد استهلت كتابها بهذا المقطع من كتابات الشاعر الكبير بابلو نيرودا: لسبب او لآخر فأنا اعتبر نفسي منفياً حزيناً بشكل او بآخر فأنا اسافر من مكان الى مكان وفي داخلي تعيش بلاد بعيدة، هناك حيث ولدت لا تزال تعيش في البلاد هناك في البعيد البعيد لا تزال تعيش في داخلي الجواهر المستطيلة للوطن».


مؤلفة هذا الكتاب هي الروائية ايزابيل الليندي ابنة عم الزعيم التشيلي سلفادور الليندي الذي أسقطه الاميركان عن طريق انقلاب عسكري شهير عام 1973 ونصبوا محله الجنرال الفاشي بينوشيه وهو الانقلاب الذي نظمته المخابرات المركزية الاميركية السيئة الذكر وادى الى مصرع الزعيم الوطني الاشتراكي.


وقد اشتغلت ايزابيل الليندي في البداية كصحفية وكاتبة مسرحية بل وكاتبة قصص للأطفال في التشيلي في عام 1974 وبعدئذ هاجرت الى فنزويلا حيث عاشت حتى عام 1984 ومن المعلوم انها كانت قد ولدت عام 1942.


ثم ابتدأت تكتب الروايات للكبار عام 1982 عندما اصدرت الرواية التالية: بيت الارواح او بالاحرى بيت الأشباح وقد صدرت اولاً باللغة الاسبانية قبل ان تترجم الى اللغات الاخرى.وبعدئذ توالت رواياتها الواحدة بعد الاخرى ونالت شهرة عالية وترجمت الى الفرنسية والانجليزية ولغات اخرى نذكر من بينها: الخطة اللانهائية، ايفالونا، باولا، حكايات ايفالونا، عن الحب والظلال، بنت القدر، صورة عتيقة، أفروديت، الخ.


وفي هذا الكتاب الجديد تتحدث الكاتبة التشيلية الشهيرة عن طفولتها وشبابها الاول والاحوال السياسية في تشيلي وانقلاب عام 1977 بالطبع واشياء اخرى كثيرة.وقد استهلت كتابها بهذا المقطع من كتابات الشاعر الكبير بابلو نيرودا: لسبب او لآخر فأنا اعتبر نفسي منفياً حزيناً بشكل او بآخر فأنا اسافر من مكان الى مكان وفي داخلي تعيش بلاد بعيدة، هناك حيث ولدت لا تزال تعيش في البلاد هناك في البعيد البعيد لا تزال تعيش في داخلي الجواهر المستطيلة للوطن».


تستهل المؤلفة كتابها ذا النفس الشاعري النوستالجي (اي الحنيني) الحزين بفصل يحمل العنوان التالي: بضع كلمات لكي نبتدئ.. وفيه تقول ما معناه: لقد ولدت وسط دخان الحرب العالمية الثانية وكبرت اثناء الحرب الباردة حيث كنا مرعوبين من اندلاع الحرب الذرية بين القوتين الأعظم.


ثم كبرت في سانتياغو عاصمة تشيلي حيث لا يستطيع المرء التأمل في ذاته وانما تحاصره المراقبة الاجتماعية من كل الجهات.


نضرب على ذلك المثل التالي: في عواصم كبرى مثل بيونيس آيريس ونيويورك تعتبر استشارة الطبيب النفساني عملية روتينية، عادية ولكن في تشيلي يعتبرونك مجنوناً اذا ما قمت بذلك!


ولكن هذا الوضع تغير في السبعينيات بحلول عهد الثورة الجنسية وربما كانت هناك علاقة بين الامرين.. وفي عائلتي لا يلجأ احد الى الاطباء النفسانيين على الرغم من الحاجة الى ذلك فلم نكن نخاطر بالبوح بأسرارنا لأناس مجهولين حتى لو كانوا اطباء كنا نكتفي باستشارة رجال الدين اثناء الاعترافات السرية في الكنيسة او نحكي همومنا للعمات والجدات.


ثم تردف المؤلفة قائلة: لقد سافرت كثيراً وابتعدت عن جذوري مرات عديدة الى حد انه تشكلت عدة طبقات من الذاكرة لدي ولو سألني احدهم: من انت؟ من أين أتيت؟ لاجبته: من لا مكان، من اي مكان ولا مكان..


ولكن بعد ان تزوجت في ولاية كاليفورنيا من شخص اميركي وانجبت الاطفال بل واصبحت جدة مؤخراً ولي احفاد فإني سأقول: انا اميركية بالمعنى الواسع للكلمة: اي اميركية جنوبية وشمالية في آن معاً.


ثم ان ضربة (11) سبتمبر جعلتني اتعاطف مع الشعب الاميركي وأشعر بمحنته وقد حصلت الضربة في اليوم نفسه والشهر نفسه الذي حصل فيه الانقلاب على ابن عمي في التشيلي، وبالتالي فتاريخ (11) سبتمبر يحزنني مرتين: المرة الأولى عام 1973 والمرة الثانية عام 2001.


وفي المرة الأولى كانت اميركا، او اجهزة مخابراتها مع كيسنغر، هي المسئولة عن الجريمة وفي المرة الثانية كانت هي ضحيتها.


والآن بعد ان كبرت في السن أحسّ بالحاجة لأن أعود ادراجي الى الوراء وأتذكر مهد طفولتي وملعب صباي فلنبتدئ اذن منذ البداية: اي من تشيلي..


الكثير من الناس لا يعرفون اين تقع تشيلي فهي موجودة في طرف العالم، في نهاية الجغرافيا وقد تساءل احد كتابنا مرة: لماذا لا نبيع تشيلي لاحدهم ونشتري شيئاً ما بالقرب من باريس؟! تساؤل شاعري مجنون ورائع ربما ولكن البلاد لا تباع ولا تشترى ولا أحد خيروه اين ستكون بلاده عندما ولد.


تشيلي تقع في جنوب اميركا الجنوبية في طرفها الاقصى انها مؤلفة من ثلاثة آلاف وثلاثمئة كيلومتر من الجبال، والوديان والبحيرات والبحر وعلى هذا النحو يصورها شاعر التشيلي الاكبر بابلو نيرودا:


«الليل والثلج والرمل تصوغ الشكل


شكل وطني النحيل،


كل الصمت في خيطه الطويل،


وكل الزبد يخرج من لحيته البحرية


وكل الفحم يملؤه بالقبلات السرية».


ثم تتحدث المؤلفة عن الناس في تشيلي، والجغرافيا، والتاريخ، حتى تصل الى الاحداث الاساسية التي حسمت مصير حياتها: اي انقلاب 1973 الآثم ومقتل ابن عمها الزعيم الوطني سلفادور الليندي، وتنصيب الديكتاتور بينوشيه محله من قبل الـ (سي.آي.ايه).


تقول بالحرف الواحد: كان سلفادور الليندي ابن عم والدي وهذا يعني انه مثل عمي من حيث القرابة وليس ابن عمي في الواقع وكان الوحيد من عائلة الليندي الذي بقي على اتصال مع امي بعد ان هجرها والدي فالجميع اداروا ظهرهم لنا ما عداه.


وقد اتيح لي ان التقي به مرات عديدة اثناء رئاسته وعلى الرغم من اني لم اشتغل مع حكومته الا ان تلك السنوات الثلاث من عمر الوحدة الشعبية كانت اهم لحظات حياتي بالتأكيد.


ضمن المنظور الحالي يمكن القول بأن الماركسية ماتت كأيديولوجيا تحرك الجماهير ولكن في عهد الليندي كانت لا تزال حية واعتقد انه بقيت منها بقايا حتى بعد انهيار العالم الشيوعي وأهم ما بقي منها حس العدالة والمساواة.


وقد كان نظام الليندي يهدف الى اقامة نظام سياسي يقدم فرصة متساوية لجميع السكان ويؤدي الى خلق الانسان الجديد الذي لا يبحث عن مصلحته الشخصية فقط وانما عن المصلحة العامة ايضاً ان الانسان الذي لا يبحث عن تراكم الربح والمال الى ما لا نهاية انه الانسان الذي لا يعتبر امتلاك المال بمثابة ذروة القيم كما هو حاصل في المجتمعات الرأسمالية الغربية.


ثم تردف ايزابيل الليندي قائلة:


كنا مقتنعين آنذاك بأنه يمكن تغيير الناس عن طريق التوجيه العقائدي او حتى التدجين العقائدي وحشو رؤوسهم بأفكار معينة ولم نكن واعين الى ان اناساً آخرين وفي اماكن اخرى قاموا بنفس العملية وكانت النتيجة مشبوهة ان لم نقل كارثية واقصد بذلك التجربة الفاشية في ايطاليا، أو النازية في المانيا، او الستالينية في روسيا.


لم نكن قد لحظنا آنذاك العلائم المرهصة بانهيار الاتحاد السوفييتي والعالم الشيوعي كانت الايديولوجيا تقول لنا بأن اميركا والغرب والرأسمالية هي التي ستنهار وليس الشيوعية او الماركسية!


وكانت الجماهير التشيلية متحمسة للمشروع كانت في أغلبيتها مؤيدة لنا وتمشي وراء قائدها سلفادور الليندي.


ولكن لكي اعطي فكرة للقارئ الغربي عما حصل اثناء الانقلاب العسكري على سلفادور الليندي يكفي ان اقول ما يلي: ماذا ستكون مشاعر الانسان الاميركي او الانجليزي لو ان الجيش هجم على البيت الأبيض او قصر بكنغهام وقتل ألف شخص بمن فيهم رئيس الولايات المتحدة أو ملكة انجلترا ورئيس وزرائها؟


هذا ما حصل بالضبط في تشيلي عام 1973 لقد كانت مجزرة حقيقية. يضاف الى ذلك ان الجنرال بينوشيه قائد الانقلاب ألغى البرلمان وعلق الحريات الفردية وحل الاحزاب السياسية وفرض رقابة رسمية صارمة على وسائل الاعلام.


ثم استقر في السلطة لفترة طويلة وراح يصفي خصومه السياسيين والايديولوجيين هذا ما حصل في تشيلي ذلك اليوم المشؤوم.


وهكذا انتهت التجربة الاشتراكية التشيلية بالدم والدموع وبشكل مأساوي حقيقي وراحت الزمرة العسكرية لبينوشيه تطبق سياسة الرأسمالية المتوحشة او الفوضوية ولم تكن تشيلي هي الحالة الوحيدة للأسف في اميركا اللاتينية فقد هيمنت الانظمة الديكتاتورية على البلدان الاخرى او معظمها في اميركا اللاتينية.


ففي عام 1975 كان نصف سكان اميركا اللاتينية على الأقل يعيشون في ظل أنظمة قمعية قليلاً أو كثيراً ومعظم هذه الانظمة كانت مدعومة من قبل الولايات المتحدة الاميركية.


فأميركا التي تطبق الديمقراطية وحقوق الانسان على اراضيها تسمح للطغاة بقمع شعوبهم في اماكن اخرى وبلاد اخرى حتى ولو كانت قريبة منها جغرافياً وعلى هذا النحو دعموا الديكتاتور بابادوك في هاييتي، وتروجيلو في جمهورية الدومينيكان، وسوموزا في نيكاراغوا.


ثم تردف المؤلفة قائلة: لقد انتهى الجزء الأول من حياتي بتاريخ (11) سبتمبر من عام 1973 ولم اكن اتوقع هذا المصير التراجيدي لعائلة الليندي لقد جاءنا الامر كمفاجأة والواقع ان من لم يقتل من عائلتنا لوحق وسجن أو هرب الى المنفى في الخارج اذا ما استطاع ولحسن الحظ فإن اخوتي كانوا في الخارج ولذلك لم يعودوا الى البلاد ولم يصبهم اذى


واما والدي فكانا سفيرين في بيونس آيريس بالارجنتين وقد بقيا هناك لفترة بعد حصول الانقلاب ثم هددوهم بالقتل فاضطروا الى الهرب واما عائلة أمي فقد كانت في أغلبيتها معادية لنظام الليندي والوحدة الشعبية وقد احتفلت بسقوطها وسكبت كؤوس الشمبانيا!! فالواقع ان جدي من جهة امي كان يكره الاشتراكية وينتظر بفارغ الصبر سقوط حكومة سلفادور الليندي ولكنه ما كان يرغب ان يحصل ذلك على حساب الديمقراطية والحرية.


ثم اخذ المثقفون والسياسيون يختفون الواحد بعد الآخر وبعضهم كان يعود الى بيته بعد بضعة اسابيع من الغياب وعلى وجهه وعينيه آثار التعذيب والبعض الآخر كان لا يعود ابداً ولم ير امرأته ولا أطفاله مرة ثانية.


والكثيرون كانوا يهربون الى الخارج، الى اي مكان: الى المكسيك، والمانيا، وفرنسا، وكندا، واسبانيا.


وانقسم التشيليون الى قسمين: قسم مؤيد للحكومة العسكرية، وقسم معارض وحصلت ظاهرة غريبة عندئذ هي ظاهرة الوشاية فقد اصبح الناس يشون ببعضهم البعض الى اجهزة المخابرات وكثيراً ما رأينا الاجهزة تنقض في جنح الظلام على هذا الشخص او ذاك وتقتاده الى اقبيتها السرية وعندئذ لم يعد أحد في المجتمع التشيلي يثق بأحد.


ثم تردف ايزابيل الليندي قائلة:


واصبح الخوف يلاحقني باستمرار وفي الليل عندما كنت انام كنت استيقظ مذعورة عندما اسمع ضجة سيارة في الشارع واقترابها من بيتنا ثم توقف محركها عن الدوران كنت اعتقد انهم جاؤوا لاعتقالي.


واحسست بأني مراقبة اكثر فأكثر وعندئذ فكرت في الهرب بعد ان ضاق الخناق علي وفي عام 1975 هربت الى فنزويلا بعد ان حملت معي حفنة من تراب التشيلي اخذتها من حديقة بيتنا ولا تزال ترافقني..


وبعد شهر من ذلك التاريخ لحق بي زوجي واطفالي الى كاراكاس عاصمة فنزويلا وشعرت بتأنيب الضمير لاني نجوت بنفسي وتركت الكثير من التشيليين فريسة للقمع والملاحقات البوليسية.


ولكن ما كنت اعتقد ان النظام العسكري سيدوم طويلاً كنت اعتقد ان العسكر سوف يعودون الى ثكناتهم بعد سنة او سنتين وان الامور ستعود الى مجاريها كما كانت ولكن النظام الديكتاتوري دام طويلاً وطويلاً وفي اثناء ذلك المنفى الطويل رحت اخترع بلاداً جديدة: هي تشيلي رحت احلم بها من جديد وبشكل جديد رحت احملها في اعماقي


وفي قلبي حتى قدر الله لي ان اعود إليها بعد سقوط نظام بينوشيه واشم هواءها لأول مرة بعد طول غياب فمن كان هذا الديكتاتور بينوشيه الذي حكم بلاده بالحديد والنار طيلة عشرين سنة؟ لماذا كان الناس يخافون منه؟ لماذا كانوا معجبين به؟


لا استطيع ان اجيب عن هذه الأسئلة بدقة لأني لم اتعرف عليه شخصياً ولم اعش في تشيلي اثناء حكمه ولكن من يريد التعرف على شخصية هذا الرجل فما عليه الا ان يقرأ روايات كاتبين مشهورين من كتاب اميركا اللاتينية هما: غابرييل غارسيا ماركيز وبخاصة «خريف البطريرك» ثم ماريو فارغاس يوسا وبخاصة: «حفلة التيس» ففيهما تصوير رائع للديكتاتور، اي ديكتاتور..


الكتاب: بلادي المعاد اختراعها


مذكرات


الناشر: هاربر بيرينيال ـ لندن 2003


الصفحات: 199 صفحة من القطع الصغير



My Invented Country




A Memoir




Isabel Allende




Harper Perennial - London 2003




P. 199

الفرح، الحزن، البحث عن سبينوزا



الفرح، الحزن، والدماغ الحساس
البحث عن سبينوزا
تأليف :انطونيو دمازيو


ؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور الشهير انطونيو دمازيو استاذ علم الاعصاب في المركز الطبي لجامعة «ايوا» بالولايات المتحدة الاميركية وقد نال سابقا عدة جوائز على ابحاثه واكتشافاته في مجال علم الاعصاب الدماغية وهو عضو المعهد الطبي التابع للاكاديمية القومية للعلوم، كما انه عضو الاكاديمية للفنون والعلوم وكتب البروفيسور دمازيو مشهورة وتدرس في مختلف جامعات العالم.


وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن واحد من كبار الفلاسفة في التاريخ: سبينوزا ثم يقيم مقارنة بين آراء هذا الفيلسوف عن الفرح والحزن والغم والحسد وبقية المشاعر الانفعالية وبين اكتشافاته هو بالذات بصفته عالما،


ومختصا بعلم الاعصاب الدماغية، وكم كانت دهشته كبيرة عندما اكتشف ان افكار الفيلسوف الكبير الذي عاش في القرن السابع عشر تتوافق في معظم الاحيان مع اكتشافات آخر النظريات الطبية والعلمية عن اصل الانفعالات البشرية!


يقول المؤلف بما معناه: ان الفرح، والحزن، والحسد، والغيرة، والخوف، كلها احاسيس نشعر بها يوميا ونعيشها، ولكننا نجهل عموما مصدرها العميق واسبابها اما سبينوزا فلا يجهل ذلك سبينوزا كان اول من بحث عنها بشكل منتظم وشكل عنها نظرية جادة وصلبة.


والواقع ان نظريات سبينوزا عن الموضوع ترهص بأبحاث علم الاعصاب الدماغية الحديث وتمهد لها الطريق وتتجلى حداثة سبينوزا من حيث انه رفض الفصل بين الجسد والروح على عكس ديكارت فالروح والجسد متلازمان في رأيه وما يؤثر على الروح ينعكس على الجسد والعكس صحيح ايضا وبالتالي فالمرض النفسي يؤدي الى اعتلال جسدي، والمرض الجسدي ينعكس على النفس والروح.


من المعلوم ان سبينوزا كان قد ولد في عائلة يهودية بمدينة امستردام عام 1932 ولكنه انفصل عن طائفته والدين اليهودي بعد ان بلغ العشرين او اكثر قليلا واعتنق الفلسفة


وهذا ما دفع بالطائفة اليهودية الى فصله من صفوفها ولعنه، ومنع اي يهودي في الاقتراب منه باعتبار انه كافر زنديق خرج على دين الآباء والاجداد ولذلك هرب سبينوزا من امستردام وذهب الى الريف الهولندي لكي يعيش في مدن صغيرة وفي اوساط المسيحيين الليبراليين المستنيرين الذين احتضنوه ودعموه بعد ان توسموا فيه العبقرية.


ثم ذهب الى مدينة لاهاي وعاش هناك في عزلة ووحدة مكرسا جل وقته للمطالعة والكتابة ولكنه كان مقربا من بعض الشخصيات السياسية المهمة التي خصصت له راتبا لكي يكمل ابحاثه وكان تعرفه على الفلسفة الديكارتية من خلال بعض الاساتذة هو السبب في تخليه عن العقائد اليهودية التقليدية.


والواقع ان فلسفة ديكارت كانت جديدة وطازجة آنذاك وكانت تعتبر بمثابة الحدث الاعظم للفكر فديكارت بدا وكأنه ارسطو جديد بل انه قام بانقلاب على ارسطو القديم اي المعلم الاول وحل محله.


ولذلك فان سبينوزا شعر بصدمة كبيرة عندما تعرف على فلسفته ولهذا السبب قرر هو الآخر ايضا ان يصبح فيلسوفا والواقع ان سبينوزا لم ينشر الا القليل في حياته خوفا من الرقابة بل وربما خوفا من الاغتيال ايضا.


ومن المعلوم انه تعرض لمحاولة قتل على يد اصولي يهودي متعصب ولكن لحسن الحظ فان المعطف الذي كان يلبسه في ذلك اليوم كان سميكا جدا فلم تصبه ضربة الخنجر في العمق وانما خدشته فقط.


لم ينشر سبينوزا في حياته الا كتابين: الاول باسمه الحقيقي، والثاني بدون توقيع، وكان عنوان الاول هو التالي: مباديء فلسفة ديكارت.


واما الثاني فقد اتخذ العنوان التالي: مقالة في اللاهوت والسياسة وهو يشرح فيه نظريته المبتكرة جدا والسابقة لاوانها عن العلاقة بين الدين والسياسة.


ثم يشرح المؤلف نظرية سبينوزا عن المشاعر والانفعالات ويقول بما معناه: الانسان بحسب منظور سبينوزا هو جزء من كليّانية الوجود وبالتالي فهو خاضع لقوانين السببية والحتمية مثله في ذلك مثل جميع الكائنات الموجودة على سطح الارض.


وقبل ان يتحرر الانسان عن طريق المعرفة فانه يكون عادة جاهلا ومستعبدا لمشاعره ونزواته وعندئذ يطفو على سطح الانفعالات الهائجة التي تتقاذفه او تلعب به كما تشاء، واحيانا يسيطر الحزن او الغم على الانسان دون ان يستطيع منه فكاكا، ولو انه عرف سببه لتحرر منه وبالتالي فان اول هدف للمعرفة هو تحريرنا من الغم او الهم الذي يسيطر علينا.


ويقول سبينوزا ايضا: ان الحزن لا يمكن ان يسيطر علينا الا اذا ضعفت رغبتنا في الحياة او قلت ثم يحلل سبينوزا طبيعة الحقد الذي نسقطه على الآخرين او حتى على انفسنا احيانا فهناك كثيرون ممن يكرهون انفسهم.


ولكن الحقد او الكره لا يمكن ان يكون شيئا جيدا. لماذا؟ لاننا نحاول ان ندمر الشخص الذي نكرهه او نؤذيه على الاقل وبعدئذ تجييء مشاعر اخرى من تلك التي تسيطر على الانسان ثم اذا ما كرهنا انفسنا فاننا نميل الى التدمير الذاتي للذات: اي الى الانتحار.


ونذكر من بينها الغيرة، او الحسد، او التهكم، او الاحتقار، او الغضب، او الانتقام وهي جميعها سيئة ولا جدوى منها في نظر الفيلسوف الكبير. ثم هناك مشاعر العار وهي من ابشع انواع المشاعر.


واما التوبة التي يلح على اهميتها المسيحيون في كتبهم الاخلاقية فلم تكن ذات خطوة لدى سبينوزا فهي ليست فضيلة في نظره لان ذلك الشخص الذي يتوب تعيس بشكل مزدوج او عاجز فطاقته الحيوية الخلاقة معرقلة مرتين لا مرة واحدة فهو من جهة ذو روح مستعبدة او مسترقة لان التوبة تعني الخضوع والعبودية بمعنى من المعاني ثم ان التوبة شيء رديء ككل المشاعر السلبية الحزينة، والحزن في رأي سبينوزا شيء سلبي باستمرار لانه يخفض من امكانياتنا على الحركة والحياة، والفعل، والابداع.


وفي نظر سبينوزا فان اي احتقار للحياة او زهد فيها يعني شيئا سلبيا وسيئا فالحياة ينبغي ان نحبها لا ان نكرهها وندير ظهرنا لها.


وبالتالي فان الانسان لا يمكن ان يتوصل الى الحرية الا عن طريق المعرفة فالمعرفة هي التي تحررنا من اوهامنا وتخيلاتنا ووساوسنا ويقصد بها سبينوزا معرفة اسباب آلامنا وحرننا وتعاستنا فاذا عرف السبب بطل العجب كما يقول المثل ويقصد بها ايضا معرفة الله والقيم العليا والقوانين التي تمسك الكون.


وبعد ان يتعرف الانسان على نفسه بشكل جيد يصبح قادرا على ان يعيش ويتصرف طبقا لمقتضيات الاستقامة والنزاهة والفضيلة. والفضيلة في نظره لا تعني الخوف والخضوع والعبودية، وانما تعني تحقيق الذات على هذه الارض بشكل ايجابي وبكل فرح وسعادة.


وفي نظر سبينوزا ان تكون فاضلاً فهذا يعني ان تكون قادراً على ان تتصرف بشكل جيد وان تعيش بشكل جيد، واذا كان الحزن دائماً شيئاً رديئاً في نظره فإن الفرح يشكل قيمة ايجابية وذلك لانه يعني زيادة قدرتنا على التحرك والتأثير على الاشياء.


لقد ارعب سبينوزا معاصريه بهذه التصورات المادية عن وحدة الوجود. ويقال بأن الفيلسوف الالماني الشهير لايبنتز عندما اطلع على كتابه «الاخلاق» صرخ قائلاً يا له من كتاب مرعب!


ثم يضيف المؤلف قائلاً ما معناه:


ان سبينوزا يمتلك نظرية متكاملة عن المشاعر التي تنتاب الانسان وهي مرتبطة بنظريته عن الحرية. فهو يقول بأننا نتعرض لاهدافنا العنيفة ومشاعرنا الهائجة التي تلعب بنا وتؤثر علينا سلباً لاننا لا نعرف اسبابها العميقة.


وبالتالي فإن المعرفة بأسبابها هي التي تحررنا منها فالناس عموماً يمتلكون معرفة خاطئة، أو غير مطابقة عن الاسباب التي تسبب لهم الحزن أو الغم او الحسد او الخوف، الخ.


وبالتالي فإذا ما ارتفعوا الى مستوى المعرفة الصحيحة او المطابقة بهذه الاسباب فإنهم يستطيعون عندئذ ان يتحرروا من هذه المخاوف والاوهام. هذا التركيز على دور المعرفة في التحرير شيء هائل ورائع.


فالمعرفة في نظر سبينوزا ليست تراكماً للمعلومات وانما هي وسيلة لتحرير الانسان من كل ما يضغط عليه ويسبب له الازعاجات والآلام.


واذا لم تكن المعرفة مفيدة في حل مشاكل الانسان فلا معنى لها. وهذا تصور حديث جداً عن المعرفة وسابق حتماً لعصر سبينوزا بكثير.


والواقع ان هذا الفيلسوف كان متقدما على عصره في جميع المجالات تقريباً. ولهذا السبب فلم يفهمه معاصروه وانما شكوا به ولعنوه وادانوه بتهمة الكفر والالحاد.


وكل مفكر سابق لزمانه يكون مكروهاً عادة ويقابل بالرفض ولكن هناك مسألة كان فيها سبينوزا من اهل زمانه وهي: قوله بأن المرأة عاجزة عن القيام بأي دور سياسي وان السياسة ينبغي ان تكون للرجال فقط.. وهذه النظرية الاحتقارية للمرأة وامكانياتها أو بالاحرى عدم امكانياتها كانت سائدة في العصور القديمة كما هو معروف.


مهما يكن من امر فإن هذا الكتاب الذي يقدمه البروفيسور انطونيو دمازيو مليء بالتحليلات الثاقبة، كما انه يعرف كيف يربط بين الماضي والحاضر بين عصر سبينوزا وعصرنا الحالي، وبين العلم الذي كان متوفراً في القرن السابع عشر عن الانسان والمادة الفيزيائية والجسد، والعلم المتوافر في اوائل القرن الواحد والعشرين.


ولكي نوضح ذلك اكثر يفضل ان نعطي فكرة عامة عن التركيبة الداخلية لهذا الكتاب، نلاحظ انه مؤلف من سبعة فصول مع هوامش كثيرة فالفصل الاول يتحدث عن مشاعر المؤلف تجاه سبينوزا بعد ان زار هولندا والاماكن التي عاش فيها الفيلسوف الكبير قبل ثلاثة قرون أو اكثر.


ثم يتحدث عن معنى الانفعالات في عصر سبينوزا ومعناها في عصرنا الحالي وعن اقامة سبينوزا في لاهاي بعد ان هرب من امستردام.


كما ويتحدث عن اقامة سبينوزا في مدن اخرى صغيرة حيث كان يسكن غرفاً مفروشة عند الناس وفي احياء هادئة لكي يتفرغ للتأمل الفلسفي والكتابة.


واما الفصل الثاني من الكتاب فيحمل العنوان التالي: بحث عن الشهوات والانفعالات التي نتعرض لها في الحياة. والفصل الثالث مكرس للانفعالات فقط.


وهو يطرح السؤال التالي: ما هي الانفعالات؟ ولماذا تصيبنا يا ترى؟ لماذا لا نستطيع ان نسيطر على مشاعر الحزن، أو الغضب، أو الحسد، أو الخوف، أو الكره التي تنتابنا احيانا؟


وفي الفصل الرابع يواصل المؤلف حديثه عن الانفعالات ويتحدث بشكل خاص عن الشعور بالفرح، والشعور بالحزن، كما ويتحدث عن الانفعالات والسلوك الاجتماعي.


واما الفصل الخامس فمكرس لدراسة العلاقات الكائنة بين الاشياء التالية: الجسد، الدماغ، العقل، وهنا يطرح مسألة العلاقة الجدلية الكائنة بين الجسد والعقل كما كان يتصورها سبينوزا،


وكما يتصورها علم الاعصاب الدماغية الحديث في آخر ما توصل اليه في اكتشافات وانجازات وعندئذ يكتشف اوجه التشابه والاختلاف بين تصور سبينوزا وتصورنا نحن وعندئذ ندرك مدى عبقرية سبينوزا وكيف استبق على آخر اكتشافات العلم الحديث.


ثم يتحدث المؤلف ايضاً عن زيارته لمدينة لاهاي عاصمة هولندا في شهر ديسمبر من عام 1999 ولا يعدم ان يعود الى الوراء لكي يرى حالة المدينة وكيف كانت في زمن سبينوزا حوالي عام 1670.


واما الفصل السادس فيتخذ العنوان التالي الشديد الدلالة: زيارة الى سبينوزا وهنا يتحدث المؤلف عن زيارته هو لمدينة هولندية صغيرة اقام فيها سبينوزا في وقته هي ريجنسبورغ، وقد زارها البروفيسور دمازيو عام 2000 وفي شهر يوليو تحديداً.


وبعدئذ يتحدث عن اوضاع مدينة لاهاي عام 1670 ثم مدينة امستردام عام 1632 اي في العام الذي ولد فيه سبينوزا، ويتحدث عن الجو العام السائد آنذاك وعن الافكار والاحداث.


كما ويتحدث عن كيفية اضطهاد المفكرين الاحرار من قبل الاصولية اليهودية أو المسيحية ثم يصل الى تلك القصة الشهيرة المتعلقة باضطهاد سبينوزا نفسه وكيفية فصله من الطائفة اليهودية واطلاق فتوى لاهوتية تلعنه وتمنع اي شخص من الاقتراب منه او مساعدته.


وفي الفصل الثامن والأخير يتحدث المؤلف عن كيفية موت سبينوزا في الخامسة والاربعين من عمره ، وما هو الارث الفكري الذي خلفه لنا.


الكتاب: البحث عن سبينوزا، الفرح، الحزن، الدماغ الحساس


الناشر: هارفست بوك ـ نيويورك 2004


الصفحات 356 صفحة من القطع المتوسط



looking for spinoza




joy, sorrow, and the feeling brain




antonio damasio




harvest book - new york 2004




p. 356

والدن




هنري ديفد ثورو
1817-1862


فقر أسرة ثورو لم يمنعه من طلب المعرفة: فقد درس في مدرسة مدينته الصغيرة، كونكورد، ثم ذهب الى جامعة هارفرد معتمدا على مساعدة بعض الأقارب من ناحية، وعلى التدريس في أوقات الفراغ. مع انه حاول بعد التخرج العمل في مجال التعليم، وفتح مدرسة خاصة مع أخوه جون في كونكورد، الا انه سرعان ما مقت رتابة الوظيفة وتركها. فقد كانت الحياة هي ما يروم. حاول بعد ذلك العمل مع والده في صناعة الأقلام، ولكنه ترك هذا العمل كذلك بعد ان أتقنه.

منذ بداية دراسته في هارفرد، كتب ثورو الكثير من المقالات التي دلت على فكر مجدد ثاقب، ولكنه، حين وافاه الأجل في سن الرابعة والأربعين، ما كان قد نشر سوى والدن (1845) الذي يصف فيه أقامته الانفرادية بجوار بحيرة والدن لمدة عامين وشهرين، ومقالته المعروفة "العصيان المدني" التي أسس فيها طريقة المعارضة السلمية التي طبقها غاندي في الهند بعد ذلك.

من الخطأ التصور ان تركيز ثورو على الفردية وحبه للطبيعة والسعادة بالدنيا والأمل في غد افضل، هذه الصفات الظاهرة في ما يكتب، تعكس حياة هادئة سعيدة: الكثير من الجيران والأصحاب والأقارب اعتبروه متطرفا في فكره، خصوصا فيما يخص قضايا السياسة والاقتصاد، مما أدى لخلافات كثيرة معهم استمرت طوال حياته. ولقد أحس بالخسارة الفاجعة حين أراد أخوه واعز أصدقائه، جون، الزواج من الين يويل، الفتاة التي أراد ثورو نفسه الزواج منها. ولكن الفتاة رفضت الاثنين معا. بعد عامين من هذا الحدث، مات جون، الضحية الأولى لضعف اسري وراثي. ثم ماتت أخت ثورو المفضلة هيلين بعد ذلك في سن السادسة والثلاثين، اما ثورو نفسه فتوفي بعد سبع سنوات، ولنفس السبب، وهو السرطان.

أول نسخ والدن كتبت في سنة 1846. وقد قام ثورو بعد ذلك بأجراء العديد من التعديلات لقراءة أجزاء من الكتاب في مركز كونكورد الثقافي، ثم لطباعته في سنة 1854. وهذه الطبعة الأولى هي مصدر هذه الترجمة.[1] العمل يعتبر من عيون الأدب الأمريكي لعمق نظرة الكاتب ونقده الصريح لما يراه في مجتمعه من عيوب، وللأسلوب الذي يعكس ثقافته الواسعة بلا تصنع. يمكن مقارنة هذا العمل بمذكرات فردرك دوجلاس لان كلا العملين يتميزان بتفرد الكاتب ورغبته في التحرر من القيود التي يفرضها المجتمع عليه. أما أهم الموضوعات في والدن فهي بلا شك فكرة الفرد التي يحللها الكاتب عبر عدة مناظير منها اقتصاد الفرد، الجانب الروحي والزمني لتجربة الانعزال، الاعتماد على النفس في مجتمع ينفيها، ونظرية السمو الفردي عبر الارتباط بالزمن والأزلية في الوقت نفسه، وغيرها.






والدن، أو الحياة في الأدغال


لا أريد كتابة قصيدة للحزن، بل ان افخر بأعلى صوت مثل ديك

الصباح الباكر، على الأقل لأيقاظ الجيران من سباتهم العميق.



الاقتصاد:

كتبتُ جل هذه الصفحات أثناء وحدتي في الأحراش، على بعد مالا يقل عن ميل من اقرب جار، في منزل قمت بنفسي ببنائه على ساحل بحيرة والدن، في كانكورد بماستكيوسس حيث كسبت رزقي من طعام وشراب بعملي بدون طلب العون من اي إنسان. عشت بهذه الطريقة لمدة عامين وشهرين ثم رجعت الى حياة الحضارة مرة أخرى.

لم اكن لاجلب خصوصياتي الى القراء لو لم توجه الي أسئلة كثيرة من أهل بلدتي. وحتى الان، يبدو بعضها تدخلا سافرا في أموري الشخصية. ولكن، لو تذكرنا الظروف الغريبة المحيطة بالموضوع، ستبدو الأسئلة طبيعية ومقبولة. البعض سألوني عما تناولته من طعام، وعن مدى معاناتي من الوحدة والخوف في أيام عزلتي. آخرون، من أصحاب الأسر الكبيرة رقيقي الحال، سألوني عما قدمت من صدقات وعن عدد الأطفال الذين أعلتهم. ولذلك ساستسمح العذر من أولئك الذين لا يهتمون بموضوعي، ساعياً في الصفحات المقبلة للإجابة على بعض هذه الأسئلة.

تختفي الانا، ضمير المتحدث، من معظم الكتب، ولكنها ستبقى واضحة في صفحات هذا الكتاب. هذا الفرق الأساسي بين كتابي وغيره لا يعني أنانيتي. نحن عموما ننسى ان المتحدث دائما موجود، وان سعى لاخفاء آثار هذا الوجود في ما يكتب. أنا كذلك أتوقع من كل كاتب، في بداية كتابه او الختام، ذكر بسيط وصادق لحياته، لا فقط ما سمعه عن حياة الآخرين، ذلك الوصف البسيط الذي يبعثه للأقارب من ارض بعيدة، لانه، لو عاش بصدق، فلابد ان يكون ذلك قد حدث في ارض بعيدة. ربما سيهتم الفقراء من طلاب العلم اكثر من غيرهم بما اكتب. أما باقي القراء، فسيتقبلون ما يجدوه مفيدا لهم ومرتبطا بأعمالهم اليومية.

ارغب في الكلام عن أولئك القراء الذين يعيشون في بريطانيا الجديدة،[2] عن أوضاعهم الحالية وضرورية الاستمرار على ذات المنوال السيئ وامكانية الاصلاح. سافرت كثيرا في قريتي كون كورد، وفي كل مكان رمته، في الدكاكين والمكاتب والحقول، بدا لي الناس وكانهم يدفعون الكفارة بألف طريقة وطريقة. ما سمعته عن رجال البرامن[3] الذين جلسوا لمدة طويلة محاطين بأربع نيران ملتهبة وهم يتطلعون للشمس الحارقة التي صبت نارها عليهم في قيظ الصيف حتى استحال عليهم الرجوع لوضعهم الطبيعي، او قيدوا أنفسهم بالسلاسل لاعوام طويلة، او وقفوا على قدم واحدة على قمم الجبال، حتى هذه الوسائل العجيبة للتكفير عن الذنوب ليست اغرب من المشاهد التي أراها يوميا. المعجزات الاثنتا عشرة لهرقل عمل بسيط بالمقارنة مع ما يفعل جيراني كل يوم. ومن الغريب ان هرقل قد ختم معجزاته ورحل بينما ظل الجيران على حالهم بدون ان تنتهي الأعمال التي يسعون لإنجازها.

أرى الشباب، رجال مدينتي، وقد ساء حظهم بعد أن ورثوا الحقول والمنازل والقطيع وآلات الزراعة، لان مثل هذه التركة يسهل الحصول عليها ويصعب التخلي عنها. كان من الأفضل لو كانوا قد ولدوا في الأدغال وأرضعتهم الذئاب لانهم كانوا سيعرفون أي حقل يجب ان يستنفذ طاقاتهم. من جعلهم خدما للتراب؟ لماذا يأكلون 60 هكتارا من الأرض حين كانت لعنة الإنسان ان يأكله التراب؟ لماذا يبدءون في حفر قبورهم منذ ساعة الولادة؟ لابد ان يدفعوا بكل ما امتلكت أيمانهم بعيدا عنهم، ساعين لحياة حقيقية بقدر استطاعتهم. كم من روح بائسة سحقها الثقل وهي ترزح بحمل الأطيان الكثيرة التي لابد من زراعتها ورعايتها. أما من لا يمتلك، ذلك الرجل الذي لا يحتاج للصراع مع كل ما ورث من معوقات غير ضرورية، فهو سيجد ما يكفيه من مشقة في السيطرة على ما يملك من لحم ودم.

جل الرجال يعملون حسب منطق خاطئ. فالجزء الأفضل من حياة الإنسان يُدفن في حفر أنتجتها عملية حراثة الأرض. بسبب نوع من المصير، الذي يسمونه خاطئين حتمية، يكدحون في كنز كنوزهم على الأرض "حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون."[4] انها حياة تصلح للبليد، كما سيكتشفون في النهاية، أو قبل ذلك.

بسبب الجهل وقلة التفكير، يظل اكثر الرجال، حتى في هذه البلد الحرة نسبيا، مشغولين بهموم تافهة وأعمال غير مجدية. حقيقة الأمر هي أن الرجل العامل لا يملك من الفراغ ما يكفي للوصول للكمال الفكري والروحي، او حتى للنزاهة. لانه لا يستطيع دفع سعر العلاقات الناجحة مع الآخرين، يبخسونه الأجر في سوق العمالة. وهو لا يملك من الوقت ما يكفي ليكون اكثر من آلة. كيف سيتذكر مدى جهله، وهو تذكر لازم للنضوج، وهو يضطر دائما لاستخدام معرفته القليلة لإتمام عمله؟ لابد لنا من تغذيته وجلب الثياب له، أحياناً بلا ثمن، ومعاملته بطريقة ودية، قبل ان نحاول تحديد مستواه. افضل الصفات البشرية، مثل النبات الناضج، تبقى فقط اذا عُوملت برقة وحساسية، ونحن نعامل أنفسنا والآخرين بصرامة تتزايد كل يوم.

بعضهم كما هو معروف فقراء يبحثون حتى عن الهواء. لا اشك ان هنالك من القراء من لا يستطيع دفع ثمن وجبة طعام، او تجديد الثياب والأحذية التي تتآكل او تآكلت منذ زمن، وهم قد أتوا الى هذه الصفحات لقضاء لحظات استعاروها، أو سرقوها، من المدينين. من الواضح كم هي غادرة ومنحطة أعمالهم: دائما في الأطراف، ساعين لدخول سوق العمل والتحرر من قيود الدين، عبر ذلك الممر القديم، طريق الفضة، حيث يعيش المرء ويموت بسبب ما يملك الآخر من فضة، متعهدا بالدفع غدا، وبالموت اليوم في سبيل تحقيق المزيد من الربح. بلا ديون، يصير المرء راغبا في تبادل المنافع، الوصول للبضاعة، بأي طريقة، فقط بحيث يتفادى السجن. الكذب والنفاق، شراء الأصوات في موسم الانتخاب أو تزويرها، وكل هذا حتى يستطيع المرء حبس نفسه في صدفة المجتمع المخملي، او التوسع في مناخ من الكرم الذي سرعان ما يتبخر بلا فائدة لأي أحد. الهدف هو إقناع جارك الغني ليسمح لك بإصلاح حذائه او قبعته أو معطفه او عربته، او توريد الخضراوات له، مما يصيبك بالمرض اليوم، في سبيل توفير بعض القروش ليوم المرض. لابد من الوصول لشيء من المال الذي ستخفيه في دولاب قديم، او في البنك، ولايهم أين او كم.

أحياناً أتسائل كيف وصلنا لذلك المستوى الذي يجعلنا نهتم بمشكلة رقيب قاسي يسيء معاملة عبيد سيده في الجنوب، وننسى أننا جميعا نعامل أرواحنا وأجسادنا وكأنها عبيد اقتفيناها في سوق النخاسة: انظر للتاجر وهو يقضي عمره هارعا من متجر لاخر. هل ترى أي قداسة او روحانية تتحرك في داخله؟ اكثر أعماله روحانية هو تقديم العلف والماء لحصانه. هل يهمه مصيره في الدنيا والآخرة اكثر من نسبة الربح التي يتقاضاها؟ تأمله وهو ينكمش ويتسلل، معانيا من الخوف المبهم طوال النهار، متحولا من الروح الحرة التي وهبها الخالق الى عبد أسير لرأيه عما يستحق ان يجنيه من أرباح على عنائه. الرأي العام حاكم ضعيف بالمقارنة مع طغيان آرائه الخاصة. فكر أيضاً في السيدات اللواتي يقضين أعمارهن في صناعة النسيج. هل يهمهن المصير ام الأوراق الخضراء؟ أما التحرر، فأي مُخّلص يستطيع تحرير هذه البشرية المكبلة بالأصفاد؟ وهل يمكن قتل اللحظة بدون جرح الأبدية؟

جل الناس يقضون أعمارهم في يأس صامت يسمونه رضا او قناعة. من يأس المدينة نتجه نحو يأس القرية حيث يقنع المرء نفسه بشجاعة الفئران وسرعة السلاحف. اليأس اللاشعوري يختبئ حتى في ما يسمى الألعاب والتسالي. ليس هنالك أي تسلية حقيقية، لان الألعاب تأتى دائما بعد العمل في الأهمية. لكن طبع الحكمة، وهو عدم الانفجار وممارسة ما لا طائلة منه، تقنع الناس بالرضا بالقليل من التسلية لنسيان اليأس الغامر ولو للحظات عابرة.

حين نأخذ في الاعتبار الأهداف الأساسية لحياة الإنسان، الضروريات والوسائل المتاحة للوصول أليها، يبدو وكان البشر يفضلون طرقا تقليدية للحياة على غيرها. الكائن الواعي الصحي يتذكر ان الوقت لم يتأخر للتخلي عن العقائد الخاطئة. لا يمكن الثقة بأي طريقة للتفكير والعمل مهما كانت جذورها قديمة بدون تجربتها. ما يوافق عليه الجمع بكلامه او صمته اليوم قد يتضح خطئه غدا، بحيث يبدو ما تصوره البعض سحابا يحمل المطر الذي سيروي الحقول عبارة عن دخان. ما تصور العجائز استحالة فعله البارحة يصنعه الشباب كل يوم. في أيام صباهم، ما عرف العجائز كيف يجلبون الوقود لابقاء النار مشتعلة، بينما نجح الشباب في وضع بعض الأخشاب تحت أناء، ومن الطاقة البخارية الناتجة، انطلقوا عبر الأرض بسرعة الطيور. كبير السن غير راغب بالتعلم لانه خسر من الأيام اكثر مما يمكن ان يكسبه عن طريق المعرفة. عمليا، لا يملك الرجل الكبير الكثير من النصائح التي يستطيع تقديمها للشباب، مما يدفع المتفكر للتساؤل عما إذا كان المرء يتعلم أي شيء من مجرد الحياة لزمن أطول. عشت ثلاثين عاما على ظهر هذا الكوكب، وحتى الان لم اسمع المقطع الأول من نصيحة قيمة قدمها لي من يكبرني في السن. هاهي الحياة أمامي، تجربة لم أخض غمارها، ولن يفيدني من عركها قبلي. لو حدثت لي أي تجربة قيمة، فمن المؤكد أنني لن أكون قد سمعت بها ممن يكبرونني سناً.

في أي طقس، خلال ساعات النهار والليل، سعيت جاهدا لتوسيع ما قدمته الحياة لي من فرص، بحيث اقف في نقطة لقاء أبدين، الماضي والمستقبل، في صلب اللحظة الحاضرة. طمحت لان اسبق، لا ضوء الفجر والصباح فحسب، بل وللتفوق على الطبيعة نفسها. كنت اقضي عملي كل يوم في الصباح الباكر قبل ان يستيقظ جيراني من سباتهم العميق، وكانوا يرونني أعود من مشاريعي بينما هم بالكاد يبدءون عملهم اليومي، ذاهبون للدغل لقطع الأشجار او للاتجار في المدينة. اعترف بأنني لم أساعد الشمس في طلوعها، ولكنني كنت دائما موجودا تلك الساعة.

حين عملت في الصحافة، قضيت فصول الخريف وأيام الشتاء خارج المدينة، ساعيا لسماع ما تجلبه الريح معها من أنباء، راغبا في التقاط تلك الرسالة الخفية الهامة.[5] كدت ان اخسر كل ما ملكت من مال سعياً وراء هذا الهدف. أحياناً، كنت اكمن في مركز للمراقبة فوق شجرة او هضبة، منتظرا وصول أول القادمين لمحادثته، وحين ما جاء أحد، بقيت في مكاني حتى المساء. ونادرا ما استحقت الإخبار التي وصلت لي هذا العناء. فقد تصور رئيس تحرير المجلة التي عملت بها ان ما اكتب هو سبب قلة التوزيع، ولذلك رفض نشر الكثير من مقالاتي. فقط حين تعلق الخبر الذي جلبته بالحكومة او المعارضة قرأته في جريدة الصباح. هكذا، وكما هو الحال مع الكثير من الكتاب، لم تكن مكافأتي على العمل سوى العناء الذي بذلته. ومع ذلك، فقد كان ذلك العناء مكافأة في حد ذاته.

بعد ان تركت الصحافة، نصبت نفسي مفتشاً على الطرق العامة ودروب الأدغال، للتأكد من صلاحيتها للاستخدام بعد عواصف المطر والثلوج، وأن الجسور كانت قادرة على تحمل العربات في كل الأوقات. قمت أيضا بإعادة الحيوانات التي غافلت حراسها وقفزت فوق الأسوار لاصحابها. ولم يقتصر عملي على كل هذا فحسب، لأنني كذلك قمت بسقي أشجار الكرز والقراص، الصنوبر الأحمر والدردار الأبيض، وغيرها من النباتات التي كانت ستذبل في موسم الجفاف، وان كنت لم اهتم بمعرفة مالك الأرض التي قمت برعايتها. باختصار، بقيت لمدة طويلة مهتما بأمور البلدة، حتى صار من الواضح ان سكان مدينتي لن يعتبرونني من العاملين فيها او يهبونني أي اجر على عملي. حسابي، الذي احتفظت به بإخلاص وأمانة، لم يُدرس أو يقبل او يُدفع لي. على كل حال، لم اكن أبداً من الساعين بجدية وراء المال.

في نهاية مارس سنة 1845، استعرت فأس جاري وذهبت الى الأدغال بجوار بحيرة والدن، في اقرب نقطة من المكان الذي نويت بناء منزلي عليه، ثم بدأت بقطع بعض أشجار الصنوبر اليافعة للحصول على الأخشاب. من الصعب بدأ اي مشروع بدون استدانة، ولكن قد يكون الكرم هو السماح للاخوة بالمشاركة وتقديم العون. حين تخلى صاحب الفأس عنها، اخبرني أنها لديه بمرتبة حدقة العين، ولكني أرجعتها له اكثر حدة مما كانت عليه ساعة استعارتها.

مكان عملي كان على قمة هضبة غطاها الصنوبر وبدت في قاعها البحيرة، وبجوارها حقل حيث تنمو الأشجار المختلفة. لم يكن الثلج قد ذاب من على سطح البحيرة، بالرغم من وجود بعض المساحات التي تشبعت بالماء. تساقط القليل من الثلج أحياناً ولكن جل الوقت، حين كنت أعود من عملي، كانت بدايات فصل الربيع واضحة من التماع شمس الأصيل، وأصوات القنبرة وغيرها من الطيور التي وصلت لقضاء عام جديد في هذه المنطقة المعطاء. ذات يوم، حين انخلع فأسى وانا اقطع شجرة صغيرة، شاهدت ثعبان الماء يهرع للماء ويرقد داخله، ظاهريا بلا اي حركة، مع أنني بقيت لمدة زادت عن ربع ساعة. كان لا يزال في حالة السبات الشتوي، مثل الإنسان الذي يبقى راضيا بحاله السيء حتى يحس بجمال الربيع ويستيقظ ساعياً آنذاك لحياة افضل. وقد شاهدت عدة مرات الثعابين في جليد الفجر واجزاء من أجسادهم لا تزال مخدرة وجامدة، بانتظار الشمس لتدفئتها.

وهكذا قضيت عدة أيام وانا اقطع الأشجار واعد الأخشاب والمسامير، وكل هذا بفأس واحدة، وبدون ان أعاني من أي أفكار أكاديمية عميقة. قطعت الأخشاب بعمق ست انشات، في جل الأحوال من ناحيتين فقط، تاركا بقية الجذع الذي صار اكثر قوة واستقامة من الأخشاب المقطعة. لم تكن أيامي الأولى في الأحراش طويلة، لأنني كنت عادة أتناول طعامي واقرا الجريدة التي استخدمها لحفظه بعد منتصف النهار بمدة بسيطة، جالسا بين أشجار الصنوبر الخضراء التي قمت بقطعهاـ والتي وهبت يديّ وطعامي شيئا من عطرها الفواح. قبل إتمام المشروع صرت صديقا للصنوبر لانني، بالرغم من قطع بعض أشجاره، عرفت الكثير عنه. أحيانا كان احد المتجولين يأتي بعد ان يسمع صوت الفأس ونبقى نتبادل أطراف الحديث، بينما يستريح ضيفي على بعض قطع الأخشاب.

قرب منتصف إبريل، كانت الأخشاب قد أعدت للرفع. وقد اشتريت خلال تلك الفترة كوخ رجل ايرلندي يدعى جيمس كولنز للحصول على الألواح، لانه كان يعتبر من افضل الأكواخ في المنطقة. حين ذهبت لمعاينة المكان، لم يكن الرجل في المنزل. تجولت في الخارج، في البداية بدون ان يلاحظونني من الداخل، لان النافذة كانت مرتفعة وصغيرة ومغطاة بالطين. السقف كان افضل ما في الكوخ، وان كان قد قاسى من الرطوبة حتى بدا طريا. ثم جاءت السيدة كولنز الى الباب ودعتني للدخول. بدا لي المكان من الداخل مظلما ورطبا، وكأن الخشب قد ابتل واحتاج للتدفئة في حرارة الشمس. أشعلت مضيفتي مصباحا لتريني خشب السقف والحيطان وحذرتني من دخول القبو لوجود حفرة عميقة فيه. لاحظت وجود سخان وسرير وكراسي للجلوس ومظلة خفيفة لحماية الجالسين من الشمس، وسمعت مواء قطة الأسرة. ثم قالت لي السيدة كولنز: "هناك خشب جيد فوقك، وخشب جيد تحتك، ونافذة رائعة." أثناء هذا الحديث، رجع جيمس، ثم أتممت صفقة العمر: فدفعت له أربعة دولارات وربع كمقدم لضمان ان الرجل لن يبيع كوخه لغيري قبل صباح الغد. وقد نصحني بالحضور في صباح الغد الباكر حتى أتعامل مع طلبات مالية مبالغ فيها، مثل الضرائب المستحقة وتكاليف الوقود، مؤكداً ان هذه هي المسئولية المالية الوحيدة. في تمام الساعة السادسة صباحاً رايتهم يرحلون وقد اخذوا كل ما في البيت من أغراض، باستثناء قطتهم التي رفضت الرحيل وفرت الى الأدغال. وقد سمعت مؤخرا انها وقعت في شرك لاصطياد الذئاب وماتت.

بدأت بهدم المسكن ذات الصباح، ساحباً المسامير من مكانها، ثم قمت بنقلها شيئا فشيئا الى شاطئ البحيرة حيث ألقيت الأخشاب على العشب حتى يجففها دفء الشمس. طائر مغرد باكر زقزق لي وانا امضي في طريقي. ابلغني أحد الشباب ان الجار سيسسلي الايرلندي استغل أوقات ذهابي لتحويل كل المسامير الصالحة ذات القضبان المدببة وغيرها من المواد الأولية الى جيبه، ثم توقف حين عدت وكأنه قد هب لنصرتي بكلماته اللطيفة، ناظرا لما حوله بلا أي اهتمام.

حفرت الأساس بجانب تل ينحدر نحو الجنوب، متجهاً نحو سهل ترابي حيث لا تتجمد البطاطا خلال فصل الشتاء. ولم تستغرق العملية اكثر من ساعتين. وقد وجدت لذة في هذا العمل لان اعظم المنازل في المدينة، واسوئها، تتشابه في الأساس الذي بُني المنزل عليه، وحتى بعد انهيار البناء، سيبقى الأساس لتذكير الناس بما كان الحال عليه في السابق. ولكن حتى تلك اللحظة، لم اكن قد أتممت سوى المدخل والأساس.

أخيرا، في بداية مايو، وبمساعدة بعض المعارف الذين جلبتهم لا للحاجة، بل للاحتفال بالمناسبة، وضعت إطار المنزل في مكانه. ثم بدأت بسكن منزلي في الرابع من يوليو، لحظة إتمام الحيطان والسقف، الذي حرصت على تغطيته بالريش ودهنه بالزيت حتى لا يتأثر بالمطر. وقد بنيت أساس مدخنة في احد الأطراف أتممتها في أوائل فصل الخريف، وأقفلت السقف والجوانب بطبقة أخري من الأخشاب قبل ان تصير التدفئة ضرورية.

هكذا صار لي مسكن، حجمه عشرة أقدام عرضا وخمسة عشر قدماً بالطول، يمتاز بنافذة كبيرة من كل جانب، وبباب كبير يقابله مكان للمدفأة. التكاليف الدقيقة لبيتي، مستخدما الأسعار الحقيقية، ولكن بدون سعر العمالة التي قمت بها بنفسي، كانت كما يلي، وأنا اذكر التفاصيل لان القليلين يعرفون كم كلفت بيوتهم، وعدد اقل كم كلفت كل من المواد الأساسية للبناء:



8 دولارات
أخشاب طويلة مسطحة

4 دولارات
قطع خشبية صغيرة لتغطية السقف والجدران

1 دولار وربع
شرائح خشب

2 دولار و43 سنت
نوافذ مستعملة مع الزجاج

4 دولارات
ألف قطعة طابوق

2 دولار واربعين سنت (كان هذا سعر مرتفع)
علبتين من الحجر الجيري

31 سنت (اشتريت اكثر من الحاجة)
وبر

15 سنت
حديد للرفوف

3 دولارات وتسعون سنتاً
مسامير

14 سنت
معضلات ومسامير الربط

10 سنتات
مزلاج الباب

1 سنت
طباشير

1 دولار واربعين سنت (قمت بنفسي بالنقل اغلب الاحيان)
النقل

28 دولار و12 سنت ونصف
المجموع:




هذه كانت المواد التي استخدمتها، باستثناء الأخشاب والصخور والتراب التي أخذتها من الأرض التي لا يملكها أحد. لدي حتى الان صندوق كبير مكون مما تبقى من المواد الأساسية بعد بناء البيت.

انتوي بناء منزل لنفسي في قرية كونكورد، بحيث سيكون افضل من أي من البيوت الموجودة، ما ان ارغب بهذا واعرف انه لن يكلفني اكثر من المنزل الحالي.

وهكذا اكتشفت ان الطالب الراغب في مأوى يستطيع إنشاءه وبسعر لا يزيد عن الإيجار الذي يدفعه الان سنويا. ان كنت أبدو متبجحا، فعذري هو أنني أتباهى بقدرة الإنسان على الابتكار. في كلية كامبردج، أجرة غرفة الطالب لا تقل عن ثلاثين دولارا والغرف متلاصقة بحيث يتضايق الساكن من صخب الجيران وقد يكون موقع الغرفة غير ملائم. اعتقد اننا لو استخدمنا الحكمة في هذه الأمور لأثرينا معرفة الطالب بالحياة العملية وقلصنا تكاليفه الدراسية في الوقت نفسه. قيمة ما يتعلمه الطالب اليوم في كامبرج تكلفه -أو تكلف غيره-الكثير، وتقليصها ممكن لو وجدت إدارة جيدة من كلا الناحيتين. الرسوم الجامعية مثلا تظل بنداً كبيراً في قائمة النفقات، بينما يظل ما يتعلمه الطالب عن طريق مصاحبة الأكثر ثقافة ممن يراهم حوله وهو الأهم بلا سعر.

إنشاء كلية في هذا الزمان باهض التكاليف، لان المبلغ المخصص للبناء يجلب كدين، غالبا من شركات كبيرة تقوم بتطبيق قانون تقسيم العمل الذي لا يجب ابدا ممارسته بلا مرونة، وكل هذا يحدث بينما ينتظر الطلاب حتى تفتح الجامعة أبوابها، ثم يقومون بتسديد كل هذه الفواتير الباهظة. اعتقد انه سيكون من الأفضل للطلاب والمنتفعين من الجامعة ان يقوموا ببنائها بأنفسهم. ولكن، سيقول أحدهم، هل يعني هذا ان على التلميذ العمل بيده بدلا من عقله؟ هذا ليس ما اعنيه بالضبط. المهم هو ألا يدرس الطالب نظرية الحياة بلا أي تطبيق بينما يقوم المجتمع بدفع التكاليف. كيف يستطيع الشاب تعلم فنون الحياة بلا تجربة عملية؟ يبدو لي ان هذه التجربة ستنشط العقل، تماما مثل الرياضيات. لو أردت تعليم الطالب عن الآداب والعلوم مثلا، فلن استخدم الطريقة التقليدية وابعثه الى أحد الأساتذة حيث سيرى العالم بعدسة مكبرة، لا بالعين الطبيعية، حيث سيدرس الكيمياء بدون معرفة كيفية صنع الخبز الذي يتناوله. من سيتعلم اكثر خلال شهر، الولد الذي صنع سكينا لنفسه من مادة خام وجدها بعد حفر الأرض، او الآخر الذي حضر كل المحاضرات عن علم الصخور، واشترى السكينة بنقود أبيه؟ حتى الطالب الذي يدرس علم الاقتصاد الدولي يظل جاهلا في علم الاقتصاد الحياتي الذي يمكن اعتباره نوعاً من الفلسفة التي لا تُدرسها الجامعات. النتيجة هي انه سيقرأ كتابات ادام سميث وروكاردو، ويغرق أسرته في الديون.

الحال في الجامعات إنما هو تكرار لما يحدث في الكثير من المجالات الأخرى. هنالك وهم بأننا نجدد، وان كان الواقع هو ان الأوضاع لا تتحسن. اكتشافاتنا هي العاب جميلة تسلينا عن مسئوليات الحياة الحقيقية. نرغب مثلا في تحسين خطوط الاتصال بين ولايتي مين وتكساس، وقد لا يجد سكان تلك الولايتين ما يودون قوله لبعضهم البعض. اسمع الان انهم يريدون بناء نفق تحت المحيط حتى نقترب من العالم الأوربي، ولكن من المؤكد ان الأخبار التي ستصلنا عن طريق المواصلات الجديدة ستكون عن أميرة تعاني من الزكام! يجدر بنا التعلم من قصة ذلك الرجل الذي رغب في محادثة امرأة معروفة بذكائها تعاني من الطرش. بعد ان عانى الآمرين واتعب نفسه واتعبها حتى جلب لها سماعة تسهل له محادثتها، نسى ما كان يود قوله! باختصار، أرى من حولي يبحثون عن وسائل متقدمة للوصول لغايات كان من الممكن الوصول لها بدون تلك الوسائل أساساً.

لمدة زادت عن خمس سنوات رعيت نفسي كليا بعملي واكتشفت انه، عن طريق العمل لستة أسابيع في العام، سأستطيع مواجهة كل تكاليف الحياة خلال ذلك العام. اما فصل الشتاء، واكثر أيام الصيف، فيمكن ان اقضيها في القراءة والتأمل. لقد جربت الدراسة الجامعية واكتشفت ان التكلفة تفوق الفائدة لانني اضطررت لدفع أسعار الثياب التي فرض علي ارتدائها، اما التفكير والأيمان فهذا كان له ثمنه كذلك، لانهم أرادوا مني الاعتقاد بما اعتقدوا به فحسب. ولم اعمل بالتدريس بعد ذلك حباً في التلاميذ، ولكن فقط من اجل المرتب. حاولت العمل أيضا في مجال التجارة، ثم اكتشفت ان النجاح سيتطلب عشر سنوات، وان رحمة الله وجناته ليست مفتوحة عموما للتجار. أتذكر انه، في السابق، حين كنت ابحث عما أستطيع فعله في هذه الدنيا، فكرت كثيراً في جمع ثمار الفراولة ونبتها، لأنني كنت متأكدا أنني سأستطيع فعل هذا وان ما سأجنيه من ربح قليل سيكفي. فاعظم ما أتميز به هو الحاجة للقليل: القليل من اللهو لمعالجة مزاجي المتقلب، والقليل من النقود. بينما اختار معارفي بلا تردد التجارة او غيرها من الحرف المحترمة اجتماعيا، اعتبرت هذه الوظيفة اقرب شيء لما فعلوه: التجول في التلال طوال الصيف لقطف نباتات التوت والفراولة، ثم نقلها للمدنيين الذين يريدون رؤية الأحراش في مساكنهم في المدينة. هذه كانت أفكاري الخاطئة آنذاك، ولكني تعلمت فيما بعد ان التجارة تلعن كل شيء تمسه. لعنة التجارة تحل بالتاجر حتى لو تعامل ببيع الكتب السماوية.

لأنني اعتبرت بعض الصفات مثل الحرية اكثر قيمة من الممتلكات المادية، لم ارغب بهدر وقتي في السعي لاقتناء سجاد غالي وأثاث فاره أو طعام فاخر، او منزل إغريقي فخم. اذا كان هنالك من لن تفسد حياته مثل هذه الممتلكات، ومن يعرف كيف سيستخدمها بعد اقتنائها، سأترك له هذمن الضروري للإنسان ان يأكل لقمة عيشه بعرق الجبين، الا إذا كان من الذين يعرقون بسهولة.

قال لي شاب اعرفه بعد ان ورث بعض الأرض، انه يتمنى الحياة مثلي، لو امتلك القدرة على ذلك. لن انصح أي إنسان بتجربة طريقتي في الحياة، لانه، باستثناء حقيقة ان من سيحاكونني سيرونني أتغير من عام لاخر، ارغب في رؤية اكبر عدد ممكن من أنواع الحياة المختلفة في العالم. ولكنني سأنصح كل فرد بان يتوسم حذرا حتى يجد الطريق الصحيح له، لا طريق الأب ألام او الجيران. الشاب قد يبني او يزرع او يمخر عباب البحار، فقط لا يجب منعه عن ما يرغب به.

التعاون الوحيد الممكن بين البشر سطحي وجزئي، وذلك القليل مثل موسيقى لا يمكن الا للمتفكر فهمها او تقدير جمالها. اذا كان للإنسان عقيدة يؤمن بها وضمير حي، سيتعاون مع الناس على ذلك الأساس، واذا ما كان لديه من هذا الكثير، فسيحيا مثل الباقين في كل زمان ومكان.

يتهمني بعض سكان مدينتي بالأنانية، وانا اعترف انني لم استمتع بالمشاريع الخيرية. قدمت بعض التضحيات بسبب إحساسي بالمسئولية، ولم أجد اي لذة في هذا. هنالك من استخدموا كل ما امتلكوا من قدرات لاقناعي برعاية إحدى الأسر الفقيرة في المدينة. مع الأسف، حين قررت رعاية بعض الفقراء بكل السبل بحيث سيعيشون مثلما أعيش وغامرت حتى بتقديم العرض، قرروا جميعا انه من الأفضل لهم ان يظلوا فقراء. بينما كرس جميع أهل مدينتي أعمارهم لفعل الخير، اعتقد انه من الممكن لواحد منهم ممارسة أفعال اكثر وحشية. من المؤكد أن العقل الذي وهبه الخالق للإنسان يمكن أن يتجلى في شيء افضل من الصدقات. ربما لا يجدر بي، وانا بكامل قواي العقلية، ان أتخلى عن فعل ما اعرف وارغب به، في سبيل إنجاز ما يريده الناس مني.

لو عرفت ان أحدهم قادم لمنزلي بهدف فعل الخير، لهربت منه كما يفر أهل أفريقيا من الرياح الجافة الحارة المسماة بالسموم، والتي تملأ الفم والأنف والأذنين بالتراب حتى يختنق المرء، خوفا من ذلك الخير المزعوم الذي سيجلبه لي. مثل هذا الرجل ليس خيراً بالنسبة لي، وان كان سيغذيني لو كنت أتضور من الجوع، او يدفئني لو عانيت من شدة البرد، او يخرجني من حفرة لو سقطت فيها. أستطيع العثور على كلب يستطيع فعل الكثير من هذا. العمل الخيري لا يعني حب الآخرين بالضرورة. أؤمن بان ما يحزن المصلح الاجتماعي ليس عطفه على معاناة الآخرين، بل عناؤه الشخصي، وان بدا اكثر الرجال خشوعاً. دع الربيع يأتي له، واسمح للشمس بان تشرق على سريره، وستراه آنذاك يتخلى عن رفاقه الكرماء بلا اعتذار. لو خدعوك وانضممت الى أحد الجمعيات الخيرية، لا تدع يدك اليسرى تعرف ما تفعله اليمنى، لانه لا يستحق المعرفة. خذ كل الوقت الضروري لتحسين أحوالك، وافعل الخير فيما تبقى من ساعات قليلة.

لقد فسدت أفكارنا من قراءة قصص الأولياء والقديسين. الأغاني في كتب صلواتنا لعنة ضد عظمة الخالق، والعديد من المصلحين قد نشروا المخاوف في قلوب الناس بدلا من زرع بذور الأمل فيها. لا توجد أغنية تموج بحب هبة الحياة. كل صحة ونجاح ينفعانني، مهما بديا بعيدين ومنطويين في زوايا الكون، وكل مرض وفشل يحزنانني ويضران بي مهما كان عطفي عليهما او حبهما لي. اذا كنا نريد تحرير الإنسان، لنحيا ببساطة وحب الطبيعة حتى نتخلص من السحب المتراكمة على الجبين ونسمح للهواء النقي بالوصول للجسد المريض: لا تبقى على قيد الحياة من اجل الفقراء، ولكن حاول ان تكون من العظماء في هذا العالم.

قرأت عن الشيخ سعدي الشيرازي القصة التالية: سألوا مرة رجلا حكيما: لماذا، من بين كل الأشجار المخلوقة، يصف الشعراء فقط شجرة السرو بالحرية، ويشبهونها بالأسد، مع أنها لا تثمر؟ فاجاب، لكل مخلوق عطاءه، وزمنه الذي سيكون خلاله نضرا يافعا، وخلال الفترات الأخرى سيجف ويذبل. ولكن شجرة السرو تظل دائما محافظة على نظارتها، مثل الأسد متفردة بتميزها. لا تعشق ما هو عابر، لان دجلة سيستمر في تدفقه عبر بغداد بعد ذهاب الخليفة. اذا كان لديك الكثير، أعط مثل النخلة، واذا ما ملكت سوى القليل كن حراً مثل الأسد، يافعاً كشجرة السرو.



أين عشت، وما عشت من اجله:

حين بدأت سكني في الأحراش، اي قضيت الايام والليالي هناك، في الرابع من يوليو 1845، الذي صادف عيد الاستقلال الأمريكي، لم يكن منزلي معداً لاستقبال برد الشتاء القارص، بل فقط للوقاية من المطر، بلا جص ولا مدخنة، وكان الحائط الخشبي منهكاً من مواجهة العواصف وفيه اكثر من ثغرة، مما جعل المكان بارداً في الشتاء. مسكني كان عبارة عن كوخ صغير مفتوح، يصلح لاستقبال الرياح التي كانت قد عصفت بكل ما في طريقها على قمم الجبال، جالبة معها روح الكون مسكن الأفضل يحميني، كنت قد خطوت عدة خطوات الى الأمام في طريق الاستقرار في هذا العالم. كتاب هاريفاسا[6] يقول: "منزل بلا طيور مثل اللحوم بلا بهارات." منزلي لم يكن هكذا. وجدت نفسي فجأة جاراً للطيور، لا لأنني حبستهم في أقفاص، ولكن لاني حبست نفسي في قفص بجوارهم. لم اكن قريبا فقط للطيور التي كثيرا ما تزور الحدائق الخاصة والعامة، ولكن كذلك للطيور الأكثر وحشية وإثارة التي يندر ان تغرد لفلاح: الدج، عصفور الحقل، التناجر والفيري وغيرها.

كنت استمتع بالجلوس بجوار شاطئ بحيرة صغيرة تبعد ميل ونصف من قرية كونكورد وتعلوها قليلا، في وسط دغل كثيف يفصل القرية من مدينة لنكولن، وميلين جنوب الحقل الوحيد المعروف في هذه المنطقة، ساحة معركة كونكورد. ولكن الأدغال أحاطت بي لدرجة ان الساحل الآخر، الذي يبعد حوالي نصف ميل، كان أقصى ما أستطيع رؤيته في الأفق البعيد. خلال الأسبوع الأول، بدت لي البحيرة كبركة جبلية صغيرة، وحين بدأت الشمس بالشروق، شاهدتها تلقي ثوبها الضبابي الليلي، بينما ترقرقت أشعة الشمس على السطح الشفاف الرائق وانسحب الضباب كأشباح أنهت اجتماعا سريا ليليا وتشردت في كل اتجاه في الغابة، حيث بقت متعلقة بالأشجار حتى أواسط النهار. وقد قدرت هذه البحيرة كصديق أثناء تساقط رذاذ الخريف، حينما هدأت الطبيعة، وغطى السحاب الدكن السماء، وبدت الظهيرة كالمساء، وغرد الدج وسُمع صدى غنائه من شاطئ لاخر. وبقيت جالسا أتأمل بينما ازداد لون السماء عمقاً حتى عكس لون مياه البحيرة الداكن التي بدورها كذلك تحولت الى مرآة عكست ألوان الكون المختلفة بعد هطول المطر.

ذهبت الى الأدغال لأنني رغبت في الحياة بطريقة مدروسة، لاتعلم ما تستطيع تعليمي إياه، حتى لا اكتشف، ساعة الموت، أنني لم اعش حياتي. لم ارغب في ان احيا ما هو ليس بحياة حقيقية، فالعمر غالي، ولم ارغب في ممارسة القناعة، اللهم الا إذا لم يكن أمامي أي طريق آخر. أردت ان أعيش بعمق وثبات، بثقة مثل ضربة السيف الحادة، وان امتص المخيخ من الحياة، ان أحاصرها في ركن، وان احددها بأقل متطلباتها. اذا ثبت لي أنها بلا قيم سوى الخسة والطمع، ان أقول تلك الحقيقة في كتابي للعالم، اما اذا ثبت لي أنها عظيمة في سموها، فسأعرف هذا بتجربتي، واقدم وصفا صادقا له. يبدو لي ان اكثر الرجال تسرعوا في الوصول لاستنتاجاتهم بخصوص هذا العالم، وهل هو للخالق أم للشيطان.

نحن نعيش كالحشرات، مع ان المفترض هو اننا قد تطورنا وتحولنا من الحال التي كنا عليها منذ بدء الخليقة. فمن الخطأ ان تكون أهم أسباب ونتائج فضائلنا تعاسة لا حاجة لنا بها يمكن بسهولة تجنبها. حياتنا تضيع تدريجيا في خضم التفاصيل، حتى نفقد القدرة على رؤية الصورة بكامل أجزائها. بدلا من ثلاث وجبات، اذا دعت الحاجة، كل واحدة، وبدلا من مائة صنف اقنع بخمسة، وقلل كل ما هو غير ضروري بنفس النسبة. صارت حياتنا مشتتة مثل الكونفدرالية الألمانية المكونة من ولايات صغيرة تتغير حدودها بين عشية وضحاها الى درجة جهل المواطن بأسم الولاية التي سينتمي لها في صباح الغد. الدولة ذاتها، بكل ما تدعيه من تحسن داخلي مستمر، إنما هي عبارة عن نظام فوضوي توسع من كل ناحية حتى ما عاد قادرا على ضبط نفسه، مثل مخزن تكدست فيه البضائع وقطع الأثاث حتى تحولت الى قيود وشراك وأحاط بها الخراب من الترف والأنفاق الزائد بلا حساب او أهداف سامية تستحق أنفاق المال في سبيل إنجازها. العلاج الوحيد لها هو اقتصاد صارم وبساطة في العيش وسمو في الغاية. الناس يظنون انه لابد للدولة من التجارة، فيصدرون الثلج ويركبون القطار بسرعة ثلاثين ميلا في الساعة ويتراسلون عبر البريد. سواء أكان هذا التطور هو الأهم، ام الإجابة على سؤال مثل هل يجدر بنا أن نحيا كالقرود، تظل قضية فيها نظر.

إذا لم نضع الأسس ونرصف الحديد ونقدم أياماً وليالٍ للعمل ونستمر في السعي لتحسين وسائل المواصلات، فلن يكون هناك قطار ينقلنا من مكان لاخر. ولكن، يمكن لنا كذلك البقاء في منازلنا والسعي لحل مشاكلنا في ديارنا. آنذاك لن تكون هناك اي حاجة للقطار الذي لا نركبه بقدر ما يركبنا. هل فكرت في من يرقد تحت كل سكة من سكك الحديد؟ تحت كل واحدة، يرقد رجل أمريكي او ايرلندي. السكك مبنية على أجسادهم التي غطيت بالتراب حتى يستطيع القطار السير في طريقه. وكل عام نحفر مقابر جديدة ونبني فوقها السكك حتى يستمتع البعض بالركوب على المقابر والأسرة التي يرقد عليها التعساء.

بكل هذه السرعة المحمومة، نظل غير قادرين على اللحاق بالحياة. نحن مصممون على معاناة آلام التضور، حتى وان لم نكن نشعر بالجوع. يقولون "القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود" لتبرير تجميد ألف قرش في البنك اليوم من اجل ربح ستة قروش العام القادم. أما العمل، فليس له عندنا قيمة تذكر. لو دقيت ناقوس الخطر، وصرخت نار! فلن يبقى رجل في ضواحي كونكورد، مهما كانت أعذاره للتغيب هذا الصباح. جمعا واحدا سيأتون، لا لإنقاذ الأرض والأملاك المحترقة من النار، ولكن للتفرج، وان كانت النار تأتى على الكنيسة ذاتها.

ما ان يستيقظ المرء من النوم حتى تسائل عن آخر الأخبار وكأنه حارس مسئول عن الكون: "قولوا لي عن أي شيء جديد حدث لاي إنسان في أي مكان." ثم يتناول القهوة وهو يقرا آخر الأخبار، بدون ان يتصور انه يعيش في أعماق كهف الحياة المظلم وما عاد قادرا على الرؤية بسبب إدمانه للجرائد.

أستطيع الحياة بدون مكتب البريد. فهو لا ينقل سوى القليل من المعلومات المهمة. الحق يقال: لم تصل لي طوال حياتي الا رسالتين استحقتا ثمن طوابع البريد. انا كذلك متأكد من أنني لم اقرأ أخبار هامة في اي جريدة. حين تقرأ مرة عن رجل تعرض للسرقة او القتل او الموت بحادث ما، او عن احتراق مسكن او غرق باخرة، فما الداعي لقراءة المزيد عن ذات الحدث اليومي مرة ثانية وثالثة؟ مرة واحدة تكفي. اذا فهمت المبدأ، فلماذا يهمك تكرار وتعدد الأمثلة؟ جل ما يسمى الأخبار انما هو خوض في سير الناس، ومن يكتبها ويقراها مجموعة من النسوة العجائز اللواتي يتحدثن لقتل الوقت وهن يتناولن الشاي. ومع ذلك، ترى الكثيرين يطلبون آخر الأنباء. منذ بضع أيام، كان هنالك طلب شديد على أخبار أوربا لدرجة ان بعض الغوغاء قاموا بكسر صناديق الجرائد اليومية. من الممكن جدا لأحد المتفكرين كتابة بعض ما ينشر اليوم قبل اثنتي عشر شهراً، أو اثنا عشرة سنة. بالنسبة لأسبانيا، لو عرفت شيئا عن دون كارلوس والقوة العسكرية، ودون بردو وغرناطة، او عن طبيعة احتفالات النصر حين تقام احتفالات مصارعة الثيران، فيمكنك تصور كل الأخبار عن حطام واعادة بناء تلك الدولة.[7] اما بريطانيا، فقد كان آخر خبر هام عنها ثورة عام 1649، واذا كنت قد عرفت قصة الحصاد لمدة عام، فلا داعي لمتابعة ذات الخبر الا اذا كنت من المستثمرين.

الأكاذيب تحترم وكأنها حقائق لا غبار عليها، بينما تبدو الحقيقة مشكوك فيها، مطعون في صحتها. إذا تطلع الناس للواقع فحسب، ولم يسمحوا للخيالات بالسيطرة عليهم، لبدت الحياة وكأنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة. حين نكون اكثر حكمة واقل تعجلا، ندرك أن ما هو عظيم وقيم فقط يمتلك وجوداً ازلياً، بينما تمر المخاوف والسعادات اليومية مثل السحاب العابر. يبني الرجل العادي حياته على وهم طالما بقى غافلا واقفل عينيه، مؤمنا بقوانين الحياة اليومية والتقاليد المعروفة فحسب بلا تفكير. وقد قرأت في كتاب هندي ما يلي: "كان هنالك ابن ملك طُرد من مدينته في طفولته، فاخذه أحد الرعاة الى مدينته وقام بتربيته. بعد ان ترعرع الأمير وبلغ سن الشباب في تلك الولاية، آمن بانتمائه للمجتمع الذي عاش في وسطه. ثم جاء اليوم حين ابلغه أحدهم بحقيقة اصله، فتخلص الأمير من عدم احترامه لنفسه وعرف حقيقة وضعه. بسبب ظروف نشاتها ومكان حياتها، تنسى الروح كذلك حقيقة عظمتها، حتى يأتي أحد المرسلين ويعلمها." يبدو أننا سكان بريطانيا الجديدة كذلك نحيا حياة الانحطاط لان نظرتنا لا تغوص ابعد من السطح الذي تراه. الرجال يحترمون الحقيقة البعيدة، في الأطراف، مع ابعد النجوم في السماء، قبل آدم وبعد الرجل الأخير. في الأزلية هنالك فعلا سمو وحقيقة ولكن الزمان والمكان الحاليين يتطلبان لفهمهما غرس الحقيقة الموجودة حولنا في أعماق العقل وسقيها بالتفكير. الكون دائما يطيع أفكارنا. سواء اسافرنا بسرعة ام ببطء، الطريق ينتظرنا. الشاعر والمبدع لم يبتكرا تصميماً في العقل الا وحوله الأحفاد الى حقيقة واقعة. دعنا إذا نقضي العمر في التفكير والخلق.

دعنا نقضي يوماً واحداً بتروٍ مثل الطبيعة. لماذا نترك ما نريد جانبا ونسمح للتيار بقيادتنا؟ واذا دق جرس الحريق، فما الداعي للركض؟ أسال نفسك الى أي نوع من الموسيقى ينتمي صوت الأجراس الصارخة؟ دعنا نربط الجأش وندفع بقدمنا الى اسفل، عبر طين الآراء والتعصب والتقاليد والخيالات والمظاهر حتى نحس بقوة الصخر الصلب الذي يسمى حقيقة، ثم نبدا بعد الوصول لنقطة يمكننا الوقوف عليها، بإنشاء حائط أو دولة، حتى تعرف الأجيال القادمة كم كان عميقا تراكم المظاهر الخادعة في عصرنا. لو واجهت الحقيقة، لرأيت الشمس تضيء ما حولها من كل جانب، وتشعر بدفئها يخترق قلبك والعظم، وستتعلم كيف تختم حياتك بسعادة. ليكن في ما تروم، الحقيقة، الحياة والموت. لو كنا حقا من الأموات، دعنا نشعر بالبرد في الأطراف، واذا كنا أحياء، فلنمض قدما على الطريق.



جيران غير متحظرين:

الفئران التي أحبت زيارة منزلي لم تكن من النوع الشائع الذي يقال انه أتى مع الأوربيين من إنجلترا الى هذه البلاد، بل من نوع وحشي نادر لا يوجد في القرى والمدن. ولقد أرسلت عينة منها الى عالم مختص بعلم الحيوان واهتم بالموضوع كثيراً. حين كنت ابني منزلي، كان أحدهم قد انشأ عشه تحت المنزل، وقبل بناء الطابق الثاني، كان يحب الخروج بشكل منتظم ساعات الظهيرة لتناول ما يسقط من فتات طعامي على الأرض. ربما لم يكن قد رأى أي رجل من قبل، ولكنه سرعان ما تأقلم وصار يجري فوق حذائي وأطراف بنطالي لالتقاط الطعام. أخيرا، بينما كنت جالسا ذات يوم، تسلق ثيابي ووصل بجوار ذراعي وبدا يدور حول الورقة التي كان عشائي داخلها. وحين أمسكت بقطعة جبن جلس على يدي وقضمها ثم نظف فمه بيده وذهب بعيدا.

في أوائل الصيف، مرت أنثى طائر الحجل الخجول مع أفراد أسرتها عبر نافذتي وهي تحاول جمع أطفالها عن طريق مناداتهم وكأنها دجاجة. الام رأتني وبعلامة صغيرة منها تشتت الصغار فجأة وكأنهم أوراق النبات الجاف الذين فرقتهم العاصفة. عادة تراهم يركضون بصمت، محتميين بالنباتات، محترمين فقط العلامات التي ترسلها لهم الام من بعيد، وحتى ان اقترب منهم بشري، فلن يغيروا اتجاههم حتى يشاهدوا او يسمعوا رد فعل الأم. من الممكن جدا ان تسير بجوارهم وان تتطلع للأحراش التي يختبئون فيها بدون ملاحظتهم. ولقد أمسكت أحدهم مرة في يدي، ومع ذلك ظل اهتمامه الغريزي الوحيد هو إطاعة أمه، وهكذا بقى في يدي بلا خوف ولا ارتعاش. ويقال ان هؤلاء الأطفال، اذا رقدت دجاجة بدلا من أمهم الحقيقية على البيض، يتفرقون ساعة الميلاد ويضيعون لانهم لا يسمعون نداء الأم الذي يتوقعونه. الصياد الجاهل القاسي كثيرا ما يصطاد الأم في هذا الوقت من العام، ويترك هؤلاء الأبرياء ضحية لاحد الوحوش او الطيور التي تجوس الأدغال بحثاً عن فريسة سهلة.

مدهش عدد المخلوقات التي تعيش حرة ووحشية مختفية في الأدغال، ومع ذلك تحصل على غذائها في مناطق قريبة نسبيا من المدن التي يسكنها الإنسان. نجح ثعلب الماء في الحصول على حياة هادئة هنا. يكبر حتى يصير حجمه أربع أقدام، بحجم طفل بشري، ربما بدون ان يراه اي إنسان. عادة، استريح ساعة او اثنين وقت الظهيرة بجوار منبع للماء ينتج عنه مستنقع وبحيرة يبعدان حوالي نصف ميل عن الحقل الذي ازرعه. الطريق للأخير كان عبر مجموعة من حقول الحشيش التي تنحدر شيئا فشيئا حتى يرى المسافر مجموعة من أشجار الصنوبر اليافعة ثم أدغال واسعة تحيط بالمستنقع. لهذا المكان جاءت دجاجة الأرض محلقة على ارتفاع بسيط فوق أطفالها الذين ساروا على الأرض في صف واحد. ولكنها في النهاية، وبعد ملاحظتي، تركت الصغار ودارت حولي مقتربة اكثر فاكثر، متظاهرة تارة بان جناحها قد كُسر، وطورا بأنها تبحث عن الدود في الطين لجلب اهتمامي، مما سيسمح للأطفال الذين بدئوا بالابتعاد بحذر وهدوء عبر البحيرة كما أشارت لهم، بالفرار. أحيانا كنت اسمع صفير الصغار من دون ان أراهم. هنالك أيضا جلس الحمام فوق النبع، أو حلق من غصن لغصن فوق رأسي، اما السنجاب، الذي يجري بسرعة الى اقرب جذع ويختفي خلفه، فقد كان منظره مألوفا. لرؤية كائنات اي منطقة في الأدغال، كل ما تحتاج لفعله هو الجلوس في منطقة جذابة بجوار منابع الماء، وسرعان ما سيبدأ سكانها بعرض نفسهم لناظريك.

شاهدت بعض المشاهد الأكثر عنفا. ذات صباح حين ذهبت الى المكان الذي اجمع فيه الأخشاب، لاحظت نملتين كبيرتين، الأولى حمراء متوسطة الحجم، والأخرى السوداء اكبر حجما، وهما في حالة صراع. كانا قد امسكا ببعضهما البعض وطفقا يتصارعان ويتقلبان بلا توقف. ثم لاحظت أن الأخشاب مغطاة بمتصارعين آخرين. كانت حرب بين نوعين من أنواع النمل، الأحمر دائما ضد الأسود، وأحيانا اثنان من الحمر ضد واحدة سوداء. الأعداد الكثيفة غطت كل الجبال والوديان في مخزن أخشابي، بينما اكتظت الأرض بالجرحى والأموات من كلا النوعين. كانت تلك المعركة الوحيدة التي شاهدتها، الساحة الوحيدة التي خطتها قدماي بينما احتدت نيران الصراع. بدت وكأنها معركة بين الثوار الجمهوريين الحمر والإمبرياليين السود. في كل مكان كانوا في خضم صراع حتى الموت وكل هذا بلا اي صوت أستطيع سماعه. لا أتصور ان البشر يتقاتلون بهذه الضراوة في حروبهم. شاهدت اثنتين وكلاهما في أحضان الآخر، مستعدان للاستمرار في الصراع من ساعات الظهيرة حتى غياب الشمس، او رحيل الروح.

برغم صغر حجمه، ربط البطل الأحمر جسده بجسد الغريم، وبدا ينهش اذرعه قرب الجذور، بينما كان الأسود الأكثر قوة يلقيه بعيدا من جانب لاخر. ثم رأيت، حين ركزت النظر، انه قد قطع بعض أعضاء عدوه. حاربوا بشدة اكثر من الكلاب المتوحشة ولم يبدو ان أي منهم كان على استعداد للتراجع. شاهدت نملةً حمراء تأتى من زقاق تائقة للدم، وكأنها قد قتلت عدوا او لم تبدا المعركة بعد. بدت مثل أبطال أحد الملاحم الإغريقية القديمة، وقد جاءت لإنقاذ رفاقها من معركة غير متكافئة، لان حجم الأسود كان ضعف حجم الأحمر. وهكذا اقتربت بهدوء من اثنين من المتصارعين وانتظرت اللحظة الملائمة حين انقضت على عدوها الأسود وبدأت عملها بجوار جذور اذرعه الأمامية، سامحةً للغريم باختيار ما يريد من أعضائها. وهكذا اتحد الثلاثة طوال الحياة وكأن هناك قوة جذب عجيبة جمعتهم. لم اكن لاستغرب لو علمت ان بعضهم قد عزفوا النشيد الوطني لتشجيع المقاتلين. نفسي استثيرت وكأن المقاتلين كانوا من الرجال، وما بدا لي وجود فرق كبير بينهما. من المؤكد انه لا يوجد في تاريخ الولايات الأمريكية أي معركة يمكن مقارنتها بهذه، سواء من ناحية أعداد الجنود، او مدى حدة الإحساس بالقومية والشجاعة. لم يكن في المعركة اي مرتزقة، وانا متأكد من انهم قد حاربوا لمبدأ يؤمنون به. نتائج هذه المعركة كذلك ستكون هامة وتاريخية للمتصارعين، تماما مثل المعارك التي يشترك فيها البشر.

جلبت الخشبة التي كان الثلاثة يتصارعون عليها لمنزلي، ووضعتها بجوار نافذتي، حتى أرى النهاية. حين وضعت مكبرا فوق النملة الحمراء أدركت ان صدره كان مكشوفا للخصم، الذي كان قفصه الصدري قويا يصعب لخصمه اختراقه، بينما التمعت عينه السوداء بوحشية الحرب. استمرا في التصارع لمدة نصف ساعة، وبعد ذلك، حين تطلعت مرة أخرى، كان المقاتل الأسود قد قطع رئسي عدويه، وكانا يتدليان من كتفيه كوسام قاتم، بينما ظل جسداهما متمسكان به، وسعى هو، بضعف ظاهر نتج عن خسارة العديد من اذرعه، للتحرر، الذي وصل له بعد نصف ساعة أخرى من الصراع. ثم تحامل على نفسه حتى عبر النافذة وذهب. لا اعرف اذا ما كان قد قضى بقية عمره في مستشفى لرعاية معوقي الحرب، ولكن شعوري كان بأنه بدد نشاطه بلا جدوى.

عالما الحيوان المعروفان، كيرلي وسبنس، يقولان ان العارفين اهتموا منذ زمن بعيد بمعارك النمل وقاموا بتسجيل تاريخها ووقائعها. يذكران مثلا: ان البوب بايس الثاني قدم وصفا مفصلا لمعركة حادة بين نوع صغير وكبير من أنواع النمل وقعت بجوار شجرة كمثرى، وانه دعا العديد من العظماء في الكنيسة ووصفوا جميعا ما شاهدوه. يذكران كذلك كاتب آخر، اولاس مانجوس، الذي وصف معركة انتصرت فيها كتائب النمل الصغيرة التي قامت، بعد النصر، بدفن جثث شهدائها، وتركت موتى الأعداء للكواسر. المعركة التي شاهدتها حدثت قبل ظهور قانون فرار العبيد بخمس سنوات.



استنتاجات:

تركت الأحراش لنفس السبب الذي دعاني للذهاب اليها. فقد اكتشفت ان أمامي اكثر من حياة قادمة، ولم يكن هنالك المزيد من الوقت للبقاء في ذات المكان. من المذهل سهولة تعود المرء على طريق واحد يحوله بسرعة الى درب سالك. لم ابق اكثر من أسبوع قبل ان تتعود قدمي على الطريق من بابي الى البحيرة، ومع ان سنوات ست قد مرت مذ خطت قدمي ذلك الطريق، لا تزال آثار قدم الإنسان عليه. وانا أخشى ان يكون الآخرين قد عبروا ذات الطريق وأبقوه سالكا. سطح الأرض سريع التأثر بآثار القدم البشرية. كم ضعفت طرق العالم بعد ان عمقت فيها آثار التقاليد وحولت صلادتها الى تراب؟

تعلمت شيئا مؤكدا من تجربتي: إذا سعى الإنسان بثقة وراء حلمه ورام الحياة التي يسعى لها، فسيرى نجاحا لم يكن يتوقعه. قد يضطر للتخلي عن بعض أغراضه في الطريق حتى يجتاز حدودا خفية، ثم يرى حوله وفي داخله قوانين افضل واكثر مرونة، او ان القوانين القديمة ستتسع وسيصير بالإمكان فهمها بطريقة تسمح بتحرر اكثر، وسيحيا مستمتعا بكل مزايا مستوى أعلى من الحياة. وبقدر ما تصير حياته اكثر بساطة، سيصير الكون الذي يحيا فيه بسيطا بحيث لا يعاني المنعزل من الوحدة ولا الفقير من الحاجة ولا الضعيف من الخوف. اذا كنت قد بنيت قلعتك في الهواء، فلن يضيع جهدك هباء لان البناء الأعظم دوما يناطح السحاب. ما تحتاج له الان هو إنشاء الأساس.

ليس من الضروري للإنسان التحدث باللغة الرسمية الصحيحة حتى يفهمه الناس. وكأن الطبيعة لا تستطيع رعاية اكثر من نوع واحد من الفهم، لا تستطيع ان تمد الطيور وذوات الأربع، ما يحلق وما يدب، بما تحتاج من غذاء، وكأن الحيوانات جميعهم يتحدثون الإنجليزية، وكأن الأمان يكون في الغباء فحسب. اكثر ما أخشاه هو الا تمتلك لغتي الثراء الكافي، لا تتجاوز الحدود الضيقة للتجربة اليومية، حتى تعبر عن الحقيقة التي أؤمن بها. الثراء! هذا يعتمد على الأسوار التي يتعين عليك تجاوزها للوصول لغاياتك. الجاموس المهاجر، الذي يبحث عن الحشيش في مساحات جديدة، ليس بثراء البقرة التي ترفس الدلو وتقفز فوق السور راكضة وراء طفلها الهارب ساعة الحلب. أريد ان أتحدث من مساحة مفتوحة بلا حدود مثل رجل في لحظة يقظة لرجال يقظين. حين نفكر في المستقبل والممكن، سنتعلم الحياة بلا تعريف محدد، وبينما يبدو خيالنا الغامض في الضباب البارد، سيهطل العرق على الجبين من شدة العمل في الشمس. لان اللغة هي عبارة عن ترجمة حرفية وجامدة للحدث، فلابد لكلماتنا من التعبير عن الطبيعة المتغيرة التي تعجز الكلمات عادة في التعبير عنها.

لماذا ننحط الى اكثر ما نراه تبلدا، ما يتفق عليه الغوغاء، ونسميه "الرأي العام"؟ اكثر الآراء عمومية هو ما يتفق عليه جمع النيام ويعبروا عنه بالشخير. أحيانا نعتبر من يتميز بذكاء ونصف مساوياً للأبله الذي يمتلك نصف ذكاء، لأننا نحترم ثلث العقل البشري فحسب. البعض سيشتكون من حمرة الأفق في الفجر الباكر لو استيقظوا في تلك الساعة. اسمع النقاد يقولون ان أشعار كابرا يمكن تحديد مستوياتها بالرمز، والروح، والعقل، والعقائد الشرقية، ولكن في هذا الجزء من العالم، يعتبرون الكلمة التي تحتوي على اكثر من معنى ضعيفة. بينما يسعى المزارعون لعلاج البطاطا الفاسدة، هل سيسعى أحدهم لعلاج العقل الفاسد الذي شاع اكثر بكثير وصار اكثر خطورة؟

لا اعتقد أني وصلت للإبهام في هذه الصفحات، ولكنني سأشعر بالخيلاء اما وجدوا في صفحاتي ما ينتقدوه اكثر مما وجدوا في ثلج بحيرة والدن. تجار الجنوب اعترضوا على زرقتها التي تدل على النقاء، مدعين ان اللون يدل على التلوث، وقد فضلوا ثلج كامبردج، الذي يشبه طعمه الأعشاب التي تجمد في وسطها. طالب النقاء اذا يريد الضباب الذي يغطي الأدغال في الفجر الباكر، ولكنه لا يستطيع تصور الأثير العالي فوق الضباب.

يقولون ان جيلنا عبارة عن أقزام بالمقارنة مع الأجداد. ولكن ما أهمية هذا؟ كلب حي يظل افضل من أسد ميت. هل يقتل الإنسان نفسه لانه ينتمي لجنس الأقزام، بدلا من السعي لان يكون افضل قزم يمكن له ان يكونه؟ دع كل عقل يفعل افضل ما يمكن له تصوره.

لماذا نسعى بهذه السرعة المحمومة للنجاح في مشروعات ميئوس منها؟ إذا لم يستطع الجندي حث الخطى حتى يلحق بالكتيبة، ربما يستمع لطبال آخر. دعوه يسير على إيقاعه الخاص، حتى وان بدا هذا الإيقاع غامضا للآخرين. لا يهم إذا ما كان ينموا شجرة تفاح، او سنديانة. هل يمكننا تبديل الطبيعة التي خُلقنا لها بالطبيعة الموجودة على ارض الواقع. لن ندع ما يسمى بالواقع يغرق سفن أحلامنا. حياة الإنسان مثل ماء النهر: في عام ما، سترتفع أعلى مما يتوقع، وتفيض فوق الساحل مغرقة العالم الذي تصور انه ليس هنالك غيره. الماء قد غطى في السابق الأراضي التي نسكنها الآن. في عمق الصحراء أرى الضفاف التي غسلها التيار في السابق قبل ان تبدأ العلوم بتسجيل كل ما تراه.

لا اعتقد ان الإنسان العادي سيرى كل هذا، ولكن هذه هي طبيعة ذلك الغد الذي لن يكفي مجرد مرور الوقت لجلبه. سيعتبر البعض الضوء الباهر الذي يصيبنا بالعمى لحظة رؤيته ظلاما من نوع آخر. ولكن هنالك أيام أخرى سيبزغ فجرها بغض النظر عما يتصورونه. الشمس التي نراها اليوم إنما هي نجمة صباح الغد.







--------------------------------------------------------------------------------

[1][1] مصدر هذه الترجمة هو: Walden and Civil Disobedience: A Norton Critical Edition. Ed., Owen Thomas. New York: Norton, 1966.

جل المعلومات الموجودة في التمهيد مستقاة من ذات المصدر.

[2] اسم يطلق على مجموعة من الولايات الواقعة في الشمال الغربي من الولايات المتحدة.

[3] من المؤمنين بعقيدة دينية شائعة في الهند.

[4] من انجيل متى 6: 19-20 .

[5] مجازيا. فقد عمل الكاتب في صحيفة يومية، ولذلك سعى لالتقاط اخر الاخبار من القادمين.

[6] اسطورة هندية عن افعال واقوال كاريشنا، تجسيد الرب فيشنو.

[7] احتد الصراع بين دون كارلوس ودون بردو بعد موت ملك اسبانيا، فردناند.

جان دارك


جان دارك

1412-1431



تدور الأحداث الجسام في حياة جان دارك قرب نهاية حرب المائة عام، التي استمرت منذ 1337 حتى 1453، والتي انتهت بخسارة بريطانيا لكل أملاكها في فرنسا، وباتحاد الولايات الفرنسية المتعددة تحت سلطة الملك تشارلز السابع. ولدت جان في عام 1412 م في قرية دومرمي (التي كانت جزءاً من برجاندي، الولاية المستقلة في ذلك الحين من السلطة الفرنسية). وقد كان والداها من المزارعين المتوسطي الحال. كانت الفتاة في الثالثة عشر من العمر حين سمعت الأصوات الملائكية لأول مرة، وحين صارت في السابعة عشر ذهبت، بناء على نصيحتهم، الى قائد القوة الفرنسية في فوسولورو، وحصلت منه على مرافقين لرؤية الابن البكر للملك الفرنسي. قدم لها كذلك الجنود والسلاح الذي سمح لها بالزحف على اورليينز التي كان الجيش البريطاني قد قام باحتلالها. تحت قيادتها، أحرز الفرنسيون انتصارات هامة ونجحت في تحقيق الرسالة التي كلفتها بها الأصوات: فقادت تشارلز الى ريمز وشاهدت تتويجه هنالك كملك لفرنسا.

بعد ذلك، أطاعت نصيحة قواد جيشها وزحفت على باريس. ولكنها، أثناء حصار مدينة كامبين، انفصلت عن جنودها أسرها البرجانديون، عملاء الاستعمار البريطاني. وقد اقتادوها الى ريون وحوكمت في محكمة الكنيسة بتهمة السحر. وقد كان أهم من اشتركوا في المحاكمة واتخذوا القرار بشأنها علماء جامعة باريس التي تحكم بها الإنجليز آنذاك. في الثلاثين من مايو عام 1431 قامت السلطات بتقييد جان دارك الى خشبة وحرقها.

طرد الإنجليز وتوحيد فرنسا كان لدرجة كبيرة نتيجة للدافع القومي الذي خلقته جان في نفوس الناس. في عام 1450 ، قرر الملك تشارلز إعادة محاكمتها، وفي عام 1555، كان هنالك محاكمة أخرى أعلنت براءتها من كل التهم الموجهة أليها. في عام 1920، صارت رسميا من بطلات فرنسا.

يمكن اعتبار اعترافات جان دارك رد فعل نسائي على مذكرات القديس أوجستن. فبالرغم من فرق ألف عام بين أول مذكرات كتبها رجل، وأول المذكرات النسائية، يلاحظ القارئ العلاقة الواضحة: ان كانت جان، مثل أوجستن، قد بنت شخصيتها على أساس العقيدة التي أمنت بها، فهي تدعي وتؤمن بان الملائكة يتحدثون معها، وتحصل بهذه الطريقة على نوع من السلطة التي سيصعب لامرأة خلال تلك الفترة الوصول لها. بل أنها ترتدي ثياب الرجال وتقود الجيوش وتحارب وتنتصر في معارك كثيرة. كل هذا سيضعها في صفوف البطلات المحاربات في سبيل حقوق المرأة-التي لا يؤمن أوجستن بها بسبب تعاليم والدته وشخصيتها، كما رأينا.

اعترافات جان دارك تبرز كذلك الجانب القاتم في أدب المذكرات. فالاعتراف هنا إجباري، وهو عبارة عن محاولة يائسة للدفاع عن النفس التي تواجه اتهامات خطيرة أودت فعلا بحياتها في نهاية المطاف.

الصفحات المقبلة مختارة من كتاب جون دارك: صورة ذاتية ل: لوليارد تراسك الذي كان مرجعه الأساسي سجلات المحاكمة الأولى. كلمات جان تقص قصة طفولتها، أما الباقي، فيعتمد على لقاءاتها مع روبرت دبودريكورت والأمير الفرنسي، وما قالته للمحققين أثناء المحاكمة.[1]







"ليس لدي المزيد من الأقوال"

مختارات من اعترافات جان دارك



بين أفراد أسرتي، كان اسمي جنيت. منذ مجيئي الى فرنسا، سموني جان.

ولدت في قرية-دومريمي. اسم أبى كان جون دارك، وأمي كانت تدعى ايزابيل.

طوال فترة إقامتي في القرية، عملت في قضاء الواجبات المنزلية، وما ذهبت لرعي الخراف وما نملكه من حيوانات أخرى ألا فيما ندر.

تعلمت في الصغر الخياطة والغزل، ولا أخشى منافسة أي امرأة في ريون في هذا المجال.

اما دراستي، فقد تعلمت عقيدتي والتصرفات الصحيحة للطفلة المهذبة بطريقة حازمة وفي الوقت المناسب.

من أمي تعلمت "أبانا الذي في السماوات،" و"تحية لمريم،" و"اؤمن،" وكل ما عرفته عن العقيدة جاء منها، لا من اي إنسان آخر.

مرة كل عام اعترفت بخطاياي الى القسيس، أما حين لم يكن قادرا فلاخر وُهب ذات الصلاحيات. ولقد شربت الماء المقدس وتناولت الخبز السماوي في عيد الفصح.

في مدخل قريتي هنالك شجرة تدعى شجرة السيدات، والبعض يسمونها شجرة الجنيات،[2]وبجوارها ينبوع ماء. سمعت أن المرضى بالحمى كانوا يشربون من الينبوع او يجلبون الماء منه للاستشفاء. بل أنني شاهدتهم يفعلون هذا وان كنت لا اعرف ان كان ما فعلوه قد ساهم فعلا في شفائهم. لقد سمعت كذلك ان المريض ساعة الشفاء كان يدور حول الشجرة عدة مرات للتعبير عن الشكر. انها شجرة ضخمة عتيقة، وجل خشب الزان الذي نستخدمه في الاحتفالات يأتي منها.

أحيانا كنت أتمشى تحت الشجرة واضع قلائد الورود على أغصانها لتمجيد العذراء الحميدة.

لقد سمعت ممن يكبرني سنا ان الجنيات كن يلتقين تحت أغصان الشجرة، بل قالت جدتي أنها شاهدتهن هنالك، لكني لا اعرف اذا كان هذا الحديث صحيحا. فأنا لم أشاهد الجنيات ابدا تحت الشجرة. رأيت بنات القرية يعلقن عقود الورد على أغصانها عدة مرات، وأحيانا علقت عنقودي مع غيره من العناقيد ثم أخذته معي ساعة الرحيل، وأحيان أخرى تركته في مكانه.

لا اذكر إذا كنت قد رقصت تحت الشجرة مع بقية الفتيات بعد وصولي لسن التمييز. قد أكون رقصت مرة او مرتين، ولكني غنيت اكثر مما رقصت.

حين كنت في الثالثة عشرة من العمر، تحدثت القديسات معي لمساعدتي في السيطرة على نفسي-لاني كنت قد تجاهلت واجب الصوم في اليوم السابق. سمعت الصوت يأتي عن يميني قريبا من الكنيسة ساعة الظهيرة في فصل الصيف، وكنت آنذاك في حديقة منزلنا. كان الضوء يتوهج حولي في كل مكان وأحسست برعب شديد.

أقسمت آنذاك ان احتفظ بعذارتي طوال الوقت الذي سيُفرح الخالق.

شاهدته عدة مرات قبل ان اعرف انه القديس مايكل. بعد ذلك، علمني واراني ما أقنعني بأنه فعلا القديس.

لم يكن وحيدا، بل أحاطت به الملائكة السماوية. شاهدتهم بأم عيني كما أراك الآن. حين تركوني وذهبوا، بكيت وتمنيت أن يأخذوني معهم. قبلت الأرض حيث وقفوا لتبجيلهم.

قال القديس مايكل انه يجدر بي ان أكون طفلة رزينة، وان الخالق سيعاونني. علمني كيف أتصرف بطريقة صحيحة وان اذهب دوما للكنيسة. ابلغني انه لابد لي من الرحيل الى فرنسا.

قال لي أن القديسة كاثرين والقديسة مارجريتا سيأتيان لي، وانه لابد لي من إطاعة كل ما يقولاه. فهما قد اختيرتا لتدريبي على المسئولية التي أنيط بي حملها، ولذلك يجب ان أؤمن بصحة ما يقولاه، لانها أوامر سيد الكون.

حدثني عن الأوضاع المأساوية في المملكة الفرنسية واخبرني انه يتوجب على الذهاب لمساعدة ملكها.

كللت القديستين مارجريت وكاثرين رأسيهما بتاجين من الجواهر الثمينة. كانت طريقتهما في الكلام سلسة وواضحة، وتمتعتا برخامة الصوت وعذوبته.

الاسم الذي نادياني به كان جان العذراء، طفلة الرب.

اخبراني ان الملك سيعود لعرشه بالرغم من سوط أعدائه وتسلطهم في الأرض. وعداني بأنهما سيأخذانني الى جنات الخلد لان هذا كان أغلى ما طلبت منهما.

مثنا وثلاث كل أسبوع طلبتا مني السفر الى فرنسا، وأبلغتاني انني سافك الحصار البريطاني عن مدينة اورليينز، وانه يجدر بي السفر الى فرسولورز، بالتحديد الى روبوت دبورديكورت، قائد المدينة، الذي سيقدم لي رجالا يأتون معي.

أجبتهما قائلة أنني فتاة فقيرة لا اعرف شيئا عن ركوب الخيل وفنون الحرب.

أبلغتني أمي ان أبى قد حلم اكثر من مرة بأنني سأهرب بعيدا مع مجموعة من الجنود. قالت لي انه تحدث الى اخوتي منذرا: "لو آمنت بان هذه الأحلام ستتحقق لطلبت منكم إغراقها، واذا رفضتم فسأغرقها بنفسي." بسبب هذه الأحلام، قام والديّ بمراقبتي دائما وحدا من حريتي واضطهداني. مع ذلك أطعتهما في كل شيء. ولكن، حين طلب الخالق مني الذهاب ما كان لي بد من إطاعة الأمر. وما دام الخالق قد أمر، فكلمات مائة أب وأم، حتى وان كنت بنت ملك، ما كانت لتمنعني. وهكذا فضل الخالق ان يحقق مشيئته عبر عذراء ريفية بسيطة سترد أعداء الملك على أعقابهم.

ذهبت الى عمي أخبرته انني ارغب في زيارته لمدة أسبوع، واثناء تلك الفترة، أبلغته انه لابد لي من الذهاب الى فوسولورز، فأخذني الى ذلك المكان.

هناك عرفت روبرت ديودريكورت، مع أنني لم أره من قبل. اخبرني الصوت انه من انشد.

أعلمته انه لابد لي من الذهاب لفرنسا، قائلة ما يلي: "مملكة فرنسا ليست ملكا لابن الملك، بل لحاكم السماوات والأرض. ولكن الخالق قدر ان يصير الابن الابكر للملك السابق ملكا ويحكم البلاد. لذلك سيتوج برغم سوط أعدائه وقسوتهم. وانا من سيقوده الى العرش."

مرتين رفض روبرت ديودريكورت الاستماع لما قلته.

ثم تحدثت الى مساعده، جون دميتر، قائلة:

"جئت لهذه المدينة لاسئل روبرت ديودريكورت لاخذي الى الملك. ولكن قلبه غلظ تجاهي، أصابت أذنه غشاوة منعته من سماع أقوالي. لابد ان أكون مع الملك قبل فترة الصوم، حتى وان كان طول الطريق قد اوجع قدمي ألم ركبتي. لا يوجد في العالم ملك، ولا أميرة، او دوق، يستطيع تحرير مملكة فرنسا، ولا إنقاذ لها سواي.

افضل كثيراً البقاء بجوار أمي المسكينة ومساعدتها على الخياطة، لان مثل هذه المسئولية الجسيمة ليست ما أعدتني أسرتي له. ولكن لابد لي من الذهاب، ولابد ان استمر حتى النهاية لان الخالق يريد هذا.

افضل ان اذهب الآن قبل الغد وغدا قبل الأسبوع المقبل."

هذه المرة هداه الله فاستمع الى أعطاني بعض الرجال لحراستي، كما قال لي الصوت انه سيفعل. ساعة الذهاب من فوسولورز تنكرت في زي رجل. حين حانت لحظة الرحيل، قال لي روبرت ديودريكورت: "اذهبي، وليكن ما يكون." أعطاني سيفا وما كان معي اي سلاح آخر. ورافقني فارس وحامل أسلحته، وأربعة خدم.

وصلت لكينون ساعة الظهيرة ونزلت في أحد فنادقها. بعد العشاء، ذهبت لرؤية ابن الملك في قلعته وحين دخلتها عرفته من بين الآخرين لان الصوت دلني عليه. ثم أبلغته أنني سأذهب لمحاربة الإنجليز:

"اجلب لك أخباراً من الخالق الذي سيرجع لك مملكتك بحيث يتم تتويجك في ريمز، وتطرد أعدائك من عقر دارك. ما أنا اكثر من رسولة للخالق، فابعثني بشجاعة للعمل، وسافك الحصار عن اورلينز."

لمدة ثلاثة أسابيع، اختبرني العلماء من كنيون وبواتيرز، واستلم الملك دلالة من المتعالي العظيم تثبت صدق ما قلت قبل ان يصدقني.

أخبرتهم اني لا اعرف الالف من الباء.[3]

جلبني ملك السماوات والأرض لفك الحصار عن اورلينز حتى يصل الابن البكر للملك الى ريمز ويتوج هناك.

أخبرتهم كذلك أنني لن أبقى اكثر من عام بكثير، ولذلك لابد من العمل بسرعة. ذكرتهم بان هنالك أربع واجبات فُرضت على: طرد الإنجليز، تتويج الأمير، إنقاذ حاكم اورلينز من أيدي الإنجليز، وتحريرها.

وهبني الملك اثنا عشر ألف رجل فقدتهم الى اورلينز. من هناك، بعثت الرسالة التالية الى من كتب على محاربتهم:

"باسم المسيح ومريم العذراء

"الى ملك بريطانيا، دوق بدفورد، يامن تدعي لنفسك حق الوصاية على مملكة فرنسا، والآخرين،

"وليام دي لابول، دوق سافولك، وجون، دوق تابولت، وثوماس، سيد سكيلز، يامن تدعون

أنفسكم قواد جيش الملك، احترموا أوامر من يملك السماوات والأرض، وسلموا العذراء، مبعوثة

الرب، مفاتيح المدن العظيمة التي احتللتموها وعثتم فيها فسادا. مبعوثة الخالق لعون الدم الملكي

ترغب بالسلام لو سلمتم لقضاء العدالة وتخليتم عن فرنسا ودفعتم ثمن ما سلبتم.

"أما انتم، يا جيوش الرجال، نبلاء وفلاحين، يا من تقفون أمام مدينة اورلينز، اذهبوا الى دياركم باسم الرب،

وان لم تفعلوا، فستصلكم أخباري حين آتى لتدمير جيوشكم دمارا تشيب لرؤيته الولدان.

"ياملك بريطانيا، إذا لم تفعل ما اطلب، فاعرف اني أقود جيشا جرارا سيلاحق رجالك ويجبرهم على

الرحيل من أي قطعة ارض فرنسية سواء ارغبوا بذلك أم لم يرغبوا. وان لم يستسلموا ويطيعوا، فسامر

بقتلهم جميعا.

"بعثتي المتعالي ملك السماوات والأرض لطردك من أراضى فرنسا التي انتهكت سيادتها. أما لو أطعتني،

فسأرحم رجالك واسمح لهم بالذهاب الى ديارهم.

"لا تفكر بطريقة أخرى: فأنت لن تأخذ فرنسا من مالك السماوات والأرض، بل ستذهب المملكة الى الملك

تشارلز ألاحق بالورث. فهذه هي إرادة مالك الكون التي كشفها لعذرائه. وفي يوم قريب، سيدخل باريس

قائدا جيشا جرارا لا قبل لك بمواجهته.

"إذا لم تصدق الأنباء من الخالق المتعالي والعذراء، فأينما نراك، هناك ستكون ضرباتنا، وسنشغلها حربا

ضروساً لم تر فرنسا مثلها منذ ألف عام، اللهم الا اذا خشيت جبروت خالقك ومارست العدالة. من

المؤكد انك تعرف ان ملك السماوات سيهب من قوته للعذراء ما لا طاقة لك به. وحينما تهطل عليكم

الضربات من كل صوب، سترى اي حق سيكون الأفضل في عين الرب.

"تصلي العذراء وتتذرع لك ألا تجلب على جيشك ونفسك الدمار، يادوق بدفورد. إذا فعلت ما تقتضيه

العدالة، سيمكنك المجيء اليها والتعاون مع الشعب الفرنسي الذي سيصنع اعظم الأعمال لديانة المسيح. اما

اذا لم تفعل، فاستعد لمواجهة المخاطر سريعا.

كتبت هذه الرسالة في يوم الثلاثاء من زمن الصيام الكبير.

حين حاصرنا مدينة اورلينز قلت لمساعدي: "ايها الطفل التعيس، أبلغتني ان الدم الفرنسي الطاهر قد هطل على الأرض. فأين سلاحي؟ الى الخيل! الى الخيل!"

وحين احتللنا الأبراج التي أنيط بها حماية المدينة كنت أول من وضع السلم للتسلق، وبينما كنت أتتسلقه، أصبت في حنجرتي بسهم أراد أعدائي به نهايتي. ولكن القديسة كاثرين قدمت لي المواساة والعون. ولم اكف عن عملي، فامتطيت الخيل بعد سقوطي وعدت للمعركة. قلت للجنود، "كونوا شجعانا ولا تتراجعوا. بعد قليل سيكون النصر لكم. تطلعوا، وحينما ترون الريح تعصف بسارتي بحوار الأسوار، ستكون المدينة لنا. هيا، هيا بنا، المدينة لنا."

صرخت بالقائد البريطاني حين اقتربت منه: "جلادسديل، ياجلاسديل، دعيتني بالعاهرة. انا أشفق على روحك وارواح رجالك ممن لا يرحم الظالم. استسلم الآن لمالك الكون."

بعد المعركة، قلت لمن عرضوا السحر لمعالجتي: "افضل الموت على ارتكاب الخطيئة."

أخيراً، حينما انسحب الإنجليز من المدينة، في الخامس من أيار، قلت لرجالي: "باسم الله القادر على كل شيء، هاهم يذهبون. دعهم يرحلون. لنذهب للصلاة ولشكر الرب. فلا يحق لنا متابعتهم في يوم الأحد. لا تلحقوا بهم اي ضرر. كل ما أريده هو رحيلهم."

في نيسان، قالت لي الأصوات أنني سأؤسر قبل يوم القديس يوحنا، وانه لابد من هذا، ولذلك لا يجدر بي ان أخاف بل ان اقبل ما سيحدث لي، لان خالقي سيعاونني. توسلت إليهم طالبة الموت بدلا من معاناة آلام السجن.

قلت لقسيس مدينة راينمز يوم تتويج الملك: "هذا شعب عظيم. لم أر شعباً آخر سعيداً لهذه الدرجة بوصول صاحب الجلالة. وأتمني ان يكون قدري سعيدا حين تنتهي أيامي وادفن في هذا المكان،" فأجابني "واين تتوقعين ان تموتي ياجان؟" فأجبته " أينما يفضل خالقي، لأنني لا اعرف الساعة او الفصل او المكان. وأتمنى ان يسعد الخالق برجوعي الان والتخلي عن السلاح حتى أستطيع خدمة والدي ورعاية أغنامهم مع أمي واخواني الذين سيسعدون برؤيتي."

ذهبت الى كامبين في مهمة سرية قبيل الفجر ودخلت المدينة بدون علم أعدائي. مساء ذلك اليوم، قمت بالهجوم الذي قُبض على خلاله.

كان معي سيف أخذته من رجل من برجاندي. استخدمته لانه كان سيفا جيدا للكر والفر.

لم اكن اعرف انهم سيقبضون على في ذلك اليوم.

عبرت الأبراج وخطوط الدفاع وحاربت مع رجالي ضد قوات السيد لوكسمبرج. ودفعتهم للتراجع مرتين، مرة الى معسكرهم والأخرى حتى منتصف الطريق. ثم فصلني الإنجليز عن رجالي وتقدموا بيني وبين معسكرنا. وهكذا اضطر رجالي للتراجع وقبض الأعداء علي.

المحاكمة: حين واجهت القضاة لاول مرة في القاعة الملكية في ريون يوم الأربعاء الواحد والعشرون من شباط، قلت لهم: "بخصوص أبى وأمي وكل ما فعلت منذ هجرتهم، اقسم على قول الحق. أما ما كشفه لي الخالق، فلا أحد يعرفه سوى الملك تشارلز ولن اقدم لكم هذه المعلومات حتى لو ذبحتموني. بعد أسبوع سأعرف ما سيسمح الخالق لي بمصارحتكم به.

"اعترض على جلبي مثقلة بالأصفاد والحديد.

اقر بأنني أتوق لما يسمح لكل أسير ان يحلم به: الفرار."

يوم الثلاثاء، السابع والعشرون من شباط، حققوا معي مرة أخرى.

قال لي المحقق: "كيف أحوالك منذ يوم السبت؟"

-"تستطيع جيدا رؤية حالي. لقد استحملت بقدر استطاعتي على الاحتمال."

-"هل سمعت الأصوات التي تأتى لك منذ يوم السبت؟"

-"نعم، واكثر من مرة."

-"هل سمعتيهم في هذه الغرفة منذ يوم السبت؟"

-"نعم، ولكن ليس لهذا اي علاقة بمحاكمتكم لي. كل ما طلبوه مني كان التشجع وعدم الخوف. سمحوا لي بالإجابة على بعض أسئلتكم. لو قدمت لكم المعلومات التي حُضر علي تقديمها، فسأفقد رعاية الأصوات لي. اما حين يسمح لي الخالق العظيم بالكلام، فسأبوح بكل ما اعرف لانه سيكون معي ويحميني منكم.

مصدر الأصوات التي اسمعها هو القديستان كاثرين ومارجريت."

-"من منهما بدا لك أولا؟"

-"لا أتذكر الجواب على هذا السؤال، ولكنه موجود في سجلات التحقيق في مدينة بويتييرز."

-"هل مضى زمن طويل منذ سمعت صوت القديس مايكل؟"

-"أنا لم اذكر صوت القديس مايكل. كل ما حدث هو انه واساني في ساعة بؤسي. الأصوات هي للقديستين كاثرين ومارجريت."

-"هل سمحا لك بالبوح بالعلامة التي تثبت انهما القديستين كاثرين ومارجريت؟"

-"لا اعرف الإجابة على هذا السؤال حتى الآن."

-"وهل أمرك الله بارتداء ثياب الرجال؟"[4]

-"ثيابي تظل اقل الأمور أهمية. بالطبع لم يطلب أبى مني ارتدائها. ولكني أتذكر من قدم الطلب ومتى.

"كل ما فعلته كان إطاعة للأوامر السماوية، وأنا أؤمن بانه كان صوابا واتوقع من خالقي الوقوف معي في ساعة ضيقي."

-"حين سمعت الصوت يأتي لك للمرة الأولى، هل كان هنالك الكثير من الأضواء؟"

-"كان النور في كل مكان. قلوبكم لا تعرف الضوء لان الله ألقى عليها غشاوة وترككم تعمهون في الظلمات."

-"هل رأيت ملاكا فوق راس ملكك حين رايته لاول مرة؟"

-"لم أر اي شيء من هذا القبيل."

-"هل رأيت الأضواء؟"

-"كان هنالك اكثر من ثلاثمائة فارس وخمسون مشعل-بدون إحصاء الأضواء الروحية."

-"اي نوع من الأدلة قدمها الخالق للملك لاثبات شخصيتك له؟"

-"لا أستطيع الإجابة على هذا السؤال اليوم او خلال هذا العام؟"

-"هل صليت طالبة ان يكون سيفك اكثر حظا؟"[5]

-"كل إنسان يتمنى ان يكون سلاحه محظوظا."



الخميس، الأول من أيار

-"عما اعرفه مما يخص هذه المحاكمة، سأقول الحق. ما سأقوله لن يتغير حتى لو وقفت أمام قداسة البابا المعظم في روما."

-"ما الذي ستقولينه لقداسة البابا، ولمن تعتبرينه البابا الحقيقي؟"

-"وهل هنالك اكثر من واحد؟"

-"هل تحدثت مع القديستين كاثرين ومارجريت منذ يوم الثلاثاء؟"

-"نعم، وان كنت لا أتذكر الساعة."

-"في اي يوم دار الحديث بينكما؟"

-"البارحة واليوم. لا يكاد يمر يوم لا اسمعهم فيه."

-"هل يرتدون دائما نفس الأثواب؟"

-"أراهم دائما بنفس الشكل. لا اعرف اي شيء عن الثياب."

-"وأي شكل ترين؟"

-"أرى وجوههم."

-"هل تمتلك القديسات اللواتي رايتيهن اي من الشعر؟"

-"من المفيد معرفة مثل هذه المعلومات."

-"هل كان الشعر طويلا ومتدليا كالعنقود؟"

-"لا اعرف. ولست على علم عما يملكاه من اذرع وأعضاء أخرى. تحدثتا لي بسلاسة وبصوت رخم عذب، وفهمت ما قالتاه."

-"كيف تحدثتا اذا ما كان لديهما أعضاء؟"

-"هذا لا يعلمه سوى العالم بخفايا الكون. تحدثتا اللغة الفرنسية."

-"هل تحدثت القديسة مرجريت باللغة الإنجليزية؟"

-"ولماذا تتحدث القديسة مارجريت بلغة من لا تقف في صفهم؟"

-"بأي شكل بدا لك القديس مايكل؟"

-"لم أشاهد اي تاج يغطي رأسه. لا اعرف اي شيء عن ثيابه."

-"هل كان عاريا؟"

-"وهل تعتقد ان الخالق الكريم لا يملك ما يكفي لكسوته؟"

-"هل كان لديه اي شعر؟"

-"ولماذا لا يكون الشعر موجودا؟ على كل حال، لم أرى القديس مايكل منذ تركت القلعة. لا أراه الا فيما ندر."



الاثنين، 12من اذار

-"هل كان الملاك الذي يجلب العلامات هو الملاك ذاته الذي ظهر لك أول مرة، أم كان ملاكا آخر؟"

-"هو دائما ذات الملاك الذي لم يتخلى عني أبداً."

-"ألم يتخل عنك حين سمح لأعدائك بأسرك؟"

-"أؤمن بان خالقي أراد لي الأسر."

-"ألم يتخل عنك بلا رحمة؟"

-"كيف يمكن ان يكون قد تخلى عني بينما تظل رحمته ترعاني كل يوم عبر حنان القديستين كاثرين ومارجريت؟"

-"هل تستدعيهما أم يأتيان لك بلا نداء؟"

-"عادة يحضران بلا نداء. بين وهلة وأخرى حين ارغب بحضورهما، اصلي لخالقي لاستدعائهما."

-"حين وعدت الرب بالحفاظ على عذارتك، هل تحدثت أليه مباشرة؟"

-"يكفي ان اقدم الوعد لمن أرسلهم لي."

-"حين رأيتِ القديس مايكل والملائكة، هل أبديت لهم التبجيل؟"

-"بالطبع."

-"هل بقوا معك لمدة طويلة؟"

-"نعم، وقد شاهدتهم يحضرون لرؤية المسيحيين اكثر من مرة بدون ان يراهم أحد."





السبت، السابع عشر من اذار.

-"هل تسلمين نفسك لسلطة الكنيسة المقدسة حتى تحكم في الصالح والطالح من أقوالك وأفعالك؟"

-"احب الكنيسة وارغب بدعمها بكل ما املك من اجل الديانة المسيحية. وما كان يحق لكم حرماني من الذهاب للصلاة يوم الأحد.[6] أما تقييم عملي، فأنا اترك هذا لمالك السماء والأرض الذي بعثني للأمير تشارلز، ابن الملك الراحل الذي سيصير ملكا. أقول لكم ان الفرنسيين سيحققون نصرا كبيرا قريبا وستتذكرون اني تنبأت بهذا بعد رحيلي."

-"أجيبي عن السؤال بخصوص استعدادك لتسليم نفسك لسلطة الكنيسة؟"

-"اسلم نفسي لسلطة الخالق الذي بعثني، للعذراء ماري، ولكل القديسين في جنات الخلد. يبدو لي ان الخالق والكنيسة شيء واحد ولا يحق لاي أحد رفض هذا القول. لماذا يبدو من سؤالك وكأنك ترفضه؟"



الاختبار الثاني: في غرفة الدولة، الثلاثاء، 27 من آذار

-"أشكركم على نصائحكم لي بخصوص العقيدة ولكنني افضل الاستماع لنصيحة خالقي. أؤمن بان قداسة البابا ومعاونيه يقومون برعاية العقيدة المسيحية وعقوبة المخطئين. ولكني لن اسمح لأي أحد بتقييم أفعالي باستثناء الأب حاكم كنيسة السماء، ومريم العذراء والقديسين في جنات الخلد. أؤمن باني لم اخطأ بحق عقيدتي ومبادئي ولا ارغب في ان ارتكب الخطيئة.

"ليس من الخطأ أن اخدم خالقي.

"لو رفض القضاة السماح لي بالمشاركة في صلوات يوم الأحد، سيعطيني الخالق ما حرمتموني منه في الوقت المناسب.

"أحياناً كثيرة انتقدوتونني بسبب عدم ارتدائي الثياب النسائية. رفضت ذلك الاقتراح، ولا أزال ارفضه. هنالك الكثيرات من النسوة القادرات على الوظائف التقليدية.

"لقد دعوت للسلام. بريديا وعبر الرسل توسلت لدوق برجاندي ان يوافق على الصلح. السلام المطلوب مع البريطانيين من ناحية أخرى يتطلب موافقتهم على الرجوع لديارهم.

"لم اعتمد على السحر او الفنون الشيطانية في إنجاز ما أنجزت.

"كان من الحكمة للإنجليز التفكر فيما كتبته لهم في رسالتي. قبل مرور سبع سنين، سيتذكرون كلماتي ويعضون بنان الندم على عدم أخذها محمل الجد.

"فانا لم ابعث تلك الرسائل لتغذية كبريائي، بل إطاعة لأوامر الخالق.

"عرضت عليهم التصالح، أنذرتهم بالحرب اذا لم يجنحوا للسلم.



الأربعاء، آذار 28

"يختار الخالق بإرادته من يقدم لهم رؤاه.

أما العلامات، فلا ذنب لي اذا كان من يطلبها لا يستحقها.

أؤمن بان المسيح تحمل عذاب الصلب حتى ينقذنا من آلام الجحيم، أؤمن كذلك ان من رايتهم هم القديس مايكل والقديسة كاثرين والقديسة مارجريت، وقد بعثهم الخالق لنصحي ومواساتي.

وسأطلب منهم العون طوال أيام حياتي.

ما أقوله في صلاتي هو:

"يا خالقي العظيم، تكريما لعاطفتك المقدسة اسالك ان تكشف ما يجدر بي قوله لمن يحققون معي. أما بالنسبة لهذه الثياب، فأنا اعرف الأمر الذي دفعني لارتدائها. ولكنني لا اعرف الطريقة والوقت الملائمين لتركها. لذلك، ارجوا أن تهديني لسواء السبيل.

"ثم تأتى لي الأجوبة فورا.

"أنكر ان المسيح قد تخلى عني.

"احترم أبجل صراع الكنيسة مع قوى الشر ولكني لا أستطيع تقديم أفعالي لقضاتها للحكم علي. الله خالقي طلب مني ان افعل ما فعلت وهو الذي سيحاسبني على ذلك الفعل.

أنا مسيحية مخلصة، بريئة من كل ما تتهموني."

حين أخذوني الى سجن القلعة، واروني آلات التعذيب وهددوني بها، قلت لهم:

"والله لو مزقتم أعضائي عضوا عضو حتى ترحل روحي من الجسد المعذب، فلن انبس ببنت شفة. وحتى لو اقسرتوني على الاعتراف فسأذكر لكل من أراه أنني تعرضت للتعذيب. سالت الأصوات عما يجدر بي فعله، خصوصا لان قادة الكنيسة يلحون على أن اقدم نفسي لهم لمحاكمتي، وكان الجواب ان الله سيكون في صفي لو رفضت ان يحكمني سواه."



اليوم الأخير: الأربعاء، مايو 30

بعد ان ابلغونني بأنهم سيقيدونني الى شجرة ويحرقوا جسدي، قلت لهم: "لو كنت في مكان إعدامي، وشاهدت الزبانية يشعلون النيران التي تلتهب حين يلقون لها بالأخشاب الجافة، ولو كنت في وسط اللهيب، حتى آنذاك لن اعترف بالمزيد، ألح على تكرار ما قلته حتى ساعة الموت.

ليس لدي المزيد من الأقوال."









--------------------------------------------------------------------------------

[1] مصدر النص المترجم والمعلومات المذكورة في التمهيد هو: Joan of Arc: A Self Portrait. Ed. Trans. Willard Task. New York: Stackpole Sons, 1936.

[2] طوال المحاكمة، سعى المحققون لدفع جان للاعتراف بممارستها للسحر. وهنا يبدو انهم ارادو خداعها عن طريق دفعها للاعتراف بالايمان بان بعض الاشجار او الينابيع كانت مقدسة من قبل الجنيات، اي الارباب القدامى اللذين امن الناس بهم قبل المسيحية. الرقص حول الاشجار وتوزيع السلال هي من طقوس تلك الاديان القديمة.

[3] اي انها امية لاتعرف القرائة والكتابة.

[4] يبدو ان اكثر ما ضايق المحققين هو تنكر جان في ثياب الرجال. من المؤكد انها اضطرت لذلك لانها عاشت مع الجنود، حملت السلاح، وشاركت في المعارك.

[5] مرة اخرى، يتسائل القضاة عن مدى ايمان جان باساطير قديمة.

[6] كنوع من الضغط لدفها للاعتراف حُرمت جان من الذهاب الى الكنيسة بعد القبض عليها.