Friday, March 03, 2006

بنيامين فرانكلين


بنيامين فرانكلين

(1706-1790)

تمهيد:

هنالك فروق واضحة بين مذكرات بنيامين فرانكلين وما كتبه أوجستن، واقر به روسو، في اعترافاتهما. وقد يكون السبب الأساسي لهذه الفروق هو ان بنيامين عاش في عصر آخر، القرن الثامن عشر، وفي بلد جديدة نشطة: الولايات الأمريكية. وقد كان محترفاً لعمل الطباعة، وهو في حد ذاته دلالة على التطور العلمي الذي جعل المؤرخين يسمون الزمن الذي عاش فيه بعصر النهضة. وقد كان فرانكلين خير ممثل لذلك العصر: فبعكس روسو، امن بقدرة العقل البشري على الابتكار وشكك بقيمة العاطفة، وخلافاً لاوجستين، ألح على معارضة كل ما هو غامض ومبهم، داعياً للتعليم كوسيلة لحل مشاكل المجتمع. قد قضى جل أعوامه الأولى في بوسطن عاملا مع والده في متجر لصناعة الشموع، وما أتيحت له الفرصة للدراسة بانتظام. ثم، حين بلغ سن الثانية عشر، عمل في مطبعة أخيه الذي اصدر جريدة مهمة في نيو انجلند. آنذاك ابتدا بتعليم نفسه، وهو يذكر تفاصيل تلك الأيام في المذكرات التي كتبها بعد أعوام لابنه وليام. في عام 1722، حين حبس أخوه بسبب نشره لمقال اغضب السلطات قام بنيامين، وهو لا يزال في السادسة عشر من العمر، برئاسة تحرير الجريدة وكتب عدة مقالات باسم مستعار وهو "فاعل خير صامت." وقد تنوعت مواضيع المقالات وشملت التعليم وحرية الصحافة. بعد خلاف مع أخيه عام 1723، ذهب بنيامين الى فيلادلفيا واستطاع العثور على عمل هناك. بسبب اهتمامه بالعمل وخبرته نجح بسرعة في امتلاك شركته الخاصة للطباعة بل ووفر ما يكفي من المال حتى يتقاعد في سن الثانية والأربعين. ثم عمل بعد ذلك في سلك الصحافة والمجال الدبلوماسي.

سمح العمل بالطباعة لبنيامين بالتعرف على الكثير من القواد البريطانيين في بنسلفينيا، وان كان قد فضل ان يكون جل أصدقائه من العلماء. وقد ابتكر ونفذ الكثير من الأفكار الشائعة حتى يومنا هذا. مثلا، كان أول من اقترح فكرة تكوين مجمعات خاصة بالعلماء، وافتتح "مجمع الفلاسفة الأمريكيين." وقد افتتح كذلك أول مكتبة للاستعارة، وكانت "أوراق اليانصيب" من بنات أفكاره.

سعى فرانكلين أثناء قيامه بالعمل الدبلوماسي لسد الهوة المتسعة بين بريطانيا والمستعمرات الأمريكية، ولكن بلا جدوى. بعد عودته من العمل الدبلوماسي في أوربا، انتُخب عضوا في مجلس الشعب الأمريكي وكتب، مع عدد من السياسيين المعروفين، الوثيقة التي أعلنت استقلال الولايات المتحدة من الاستعمار البريطاني. بعد ذلك عاد لأوربا وساهم في عقد الصلح، الذي شمل الاعتراف بالاستقلال، مع بريطانيا.

في سن الخامسة والستين، عام 1771، كتب فراكلين لابنه وليام مذكراته التي شملت السنوات الأربع وعشرين الأولى من عمره. بعد بضع سنوات، قام بإضافة القليل عن المراحل الأخيرة من حياته، ولكنه أبقى عمله بالسياسة سرا، وما كتب عنه البتة. بل انه رفض نشر المذكرات الأولى أثناء حياته. المختارات التالية تشمل أجزاء مهمة من القسمين الأول والثاني.[1]





من المذكرات



ابني العزيز:

دائما استمتعت بجمع كل ما يتوفر من معلومات عن حياة أجدادنا وتجاربهم. بل انك قد تتذكر بحثي عن مقابر أسرتنا والرحلة التي قمت بها لهذا الغرض حين كنا في إنجلترا. وقد تجد أنت أيضاً بعض المنفعة في معرفة ما لم يتح لك معرفته عن حياتي. ولكن هنالك عوامل أخرى تدفعني لكتابة هذه الصفحات: فقد نجحت في الصعود فوق الفقر والجهل الذي ولدت فيه حتى وصلت ليسر الحال ولسمعة طيبة في هذا العالم. ارغب في ذكر أسباب هذا النجاح، والوسائل التي أدت برعاية الله للوصول أليه، حتى يستطيع أحفادي في ساعة الضيق الاستفادة من تجربتي. الحظ السعيد الذي واتاني يجعلني أتمنى لو كان بإمكاني ان احيا الحياة نفسها مرة أخرى، راغباً فقط بإضافات وإصلاحات بسيطة، مثل تلك التي يضيفها الكاتب للطبعة الثانية من كتاب جيد. أتمنى كذلك تغيير بعض الأحداث المؤلمة التي عانيت منها، ولكن، لو قُدم لي العرض لتكرار تلك الحياة بلا أي تغيير، لقبلته. بما أن مثل هذا التكرار يظل حلما، فسأقنع الان باستعادة تلك الأحداث عن طريق كتابتها بحيث يمكن لها البقاء.

الأوراق التي قدمها لي أحد الأعمام من الذين اهتموا مثلي بجمع المعلومات عن أجدادي وهبتني كل ما اعرف عنهم. فمنها عرفت ان الأسرة عاشت في قرية اكتون في نورث هامبشور ببريطانيا اكثر من ثلاثمائة عام، وان أفرادها عملوا بالزراعة والتجارة.

ترك والدي جاشوا بريطانيا بعد ان تزوج في سن مبكرة، واخذ زوجته والأطفال الى بريطانيا الجديدة في الولايات المتحدة عام 1682. وقد كان سبب الهجرة هو الاضطهاد الديني حيث نصحه الأصحاب بالسفر الى مكان سيجد فيه هو أسرته الحرية لممارسة عقائدهم الدينية بدون خشية. وقد انجب من الزوجة الأولى أربعة أطفال ومن الثانية عشرة، أتذكر الآن ثلاثة عشر طفلا منهم يجلسون على طاولة واحدة. وقد كبروا الآن صاروا رجالا ونساء وتزوجوا وانجبوا. كنت اصغر الذكور وكان بعدي بنتان. أما أمي، وتدعى أبية فوجار، فقد كانت الزوجة الثانية، وكان والدها من مستوطني بريطانيا الجديدة، وقد سمعت انه كتب بعض المقالات ولكنه لم ينشر اي منها.

عمل اخوتي في مجالات التجارة المختلفة. اما أنا، فقد ذهبت للمدرسة في سن الثامنة لان رغبة والدي كانت في أن انضم لخدمة الكنيسة. إعدادي الباكر للقراءة (الذي جاء باكرا لدرجة أنني لا أتذكر الزمن الذي لم اكن خلاله اعرفها) وآراء كل أصحابه عن قدراتي الفكرية، دفعاه لاتخاذ لهذا القرار. عمي بنيامين كذلك وافق على الفكرة بل وقدم لي كتاباً بخط يده يحتوي على خطب دينية لتعليمي فن الاختزال. ولكنني لم ابق طويلا في المدرسة بالرغم من انني انتقلت من آخر الصف الأول لاوله، ثم نقلت للثاني وكنت استعد للانتقال للثالث في اقل من عام. ولكن والدي غير رأيه لانه لم يقدر على تكاليف الجامعة وعرف بسوء الأحوال المعيشية للكثير من خريجي المدارس. وهكذا أخذني لمدرسة أخري أدارها رجل معروف: السيد جورج براون ويل، الذي كان يستخدم وسائل الرعاية والتشجيع في تعليم الصبية. بمعونته تعلمت الكتابة بسهولة، ولكنني فشلت في الحساب وما كان هناك أي تقدم بالرغم من إعادة المحاولة اكثر من مرة. وهكذا عدت للمنزل لمساعدة والدي في عمله، وهو صناعة الشموع والمشامع وبيعها. وظيفتي كانت أعداد الفتائل والقوالب، رعاية الدكان، وجلب المطلوبات من السوق، الخ.

لأنني عشقت القراءة منذ نعومة اضفاري، وأنفقت كل ما لدي من أموال قليلة على الكتب، قرر والدي دفعي لعالم الطباعة، مع انه كان قد وجه ابناً آخر لذات المجال. وقد ذهب آخي لبريطانيا في عام 1717 وجلب معه الطابعة والحروف واستعد لبدء العمل في بوسطن. بالرغم من معارضتي للفكرة مبدئيا، لانني رغبت في العمل في البحر، الا أنني بعد الحوار مع أبى واخوتي وافقت على العمل في سن الثانية عشرة.

بعد فترة تعرفت على السيد ما ثيو ادامز، وهو تاجر محترم داوم التردد على دارنا لطباعة كتبه، وقد لاحظني وسمح لي بزيارة مكتبته واستعارة كل ما ارغب بقراءته. خلال تلك الفترة ابتدأت بقراءة وكتابة الشعر، وقد شجعني أخي على هذا النشاط. نظمت قصيدة باسم "مأساة المنارة،" وكانت عن غرق القبطان ريلك وابنتيه، وقصيدة أخرى عن القبض على القرصان الذي عُرف باسم اللحية السوداء. كان شعرا سيئا للغاية، ومع ذلك نجحت في بيع القصيدة الأولى في المدينة لان الناس تذكروا الحدث الذي تشير اليه. لكن والدي نصحني بالكف عن قرض الشعر وسخر مما كتبت وذكرني أن جل الشعراء كانوا من المتسولين. وهكذا نجوت من الشعر، ومن المؤكد أنني ما كنت لأستطيع التميز فيه. أما كتابة النثر، فسأخبرك كيف أتقنتها لأنها قد أفادتني كثيرا وساهمت في تقدمي في الحياة.

خلال تلك الفترة، اطلعت على أحد أعداد مجلة بريطانية، المشاهد، التي أدارها السيدان جوزف اديسون ورتشارد ستيل. وقد أعجبني أسلوب بعض مقالاتها وحاولت محاكاتها. وهكذا جلبت بعض المقالات التي أعجبتني وكتبت تلخيصاً قصيراً لموضوعاتها، ثم تركته لبضع أيام وحاولت بعد ذلك إعادة كتابة ذات الموضوع، معتمدا على الملخص الذي كان لدي. ثم قارنت ما كتبت بالأصل وعرفت نقاط ضعفي وقمت بتصحيحها، ولكني اكتشفت حاجتي الماسة للمزيد من الكلمات وللقدرة على تذكرها واستخدامها.

بينما كنت أسعى لتحسين لغتي، اطلعت على أحد كتب النحو والبلاغة، وقد احتوى في ختامه على بعض الأمثلة من الحوار السقراطي الذي أعجبني لدرجة انني اشتريت كتاب احتوى على العديد من تلك الحوارات. تدربت على فن الحوار بهذه الطريقة وبرعت فيه حتى صرت قادرا على إحراج أناس عرفوا اكثر مني بكثير. استمررت في استخدام هذه الطريقة بعض سنوات، ثم تخليت عنها محتفظا فقط بعادة التواضع، متجنباً كلمات مثل "مؤكد" او "بلا شك،" و غيرها مما يعطي انطباع الثقة المطلقة. وقد كانت تلك العادة مفيدة جدا حين اضطررت فيما بعد للسعي لاقناع من حولي لما كنت أسعى اليه: بما ان أهداف الحديث في الحوار متعددة، تشمل إبلاغ المعلومات وتلقيها، الإقناع، وارضاء المستمع، أتمنى ان يتذكر المتحاورون ان الهدف الجيد الذي يسعون أليه لا يعطيهم الحق في التكبر الذي يستفز السامعين ويعمل ضد تحقيق أهداف الحوار الأساسية.

بدا أخي في عام 1720 بطباعة جريدة كانت الثانية من نوعها في أمريكا. وقد تمتع بأصدقاء من المثقفين الذين كتبوا في جريدته، مما ميزها وزاد من الإقبال عليها. وقد شاهدت بعض هؤلاء الرجال وسمعت منهم عن الإطراء الذي لاقته الجريدة وقررت ان أحاول الكتابة في صفحاتها. لأنني أدركت ان أخي سيعترض على نشر أي مقال اكتبه بسبب صغري في السن، كتبت موضوعي الأول وتركته تحت بوابة المكتب بلا اسم وسعدت في الصباح حين عثروا عليه وامتدحوا أفكاره. أثناء لعبة التخمين ذكروا أسماء الكثير من الشخصيات المعروفة، ولكنهم لم يذكروا اسمي. اعرف الان ان الحظ واتاني آنذاك، لان المقال الذي كتبته ما كان يستحق كل ما لاقاه من مديح.

شجعني ما لقيت من إطراء فكتبت عدة مقالات أخرى نُشرت جميعا حتى نضب القليل من الفكر الذي امتلكته آنذاك. ثم اعترفت للجمع بأنني الكاتب المجهول مما رفع من شأني وان اغضب أخي الذي أحزنه التكبر الذي بدأ يظهر علي ذلك الحين. وقد يكون هذا أحد أسباب الخلافات التي استفحلت في المستقبل بيننا. فبالرغم من الاخوة، اعتبر نفسه مدرسا لي واعتبرني تلميذه بينما تصورت ان هذه المعاملة نتتقص من قدري.

اغضب أحد المقالات السياسية التي نشرناها بعض أعضاء المؤتمر الحاكم في الولاية. ولذلك، زجت الدولة بأخي في السجن لمدة شهر، ربما لانه رفض البوح باسم الكاتب. أثناء غيابه الذي أحزنني بالرغم من خلافاتنا الكثيرة قمت بإدارة شؤون الجريدة، وما خشيت انتقاد الحكام اذا ظلموا، مما اسعد أخي واغضب الآخرين الذين رأوني كعبقري صغير يغوى المشاكل. ولكن كل المساعي التي بذلتها ذهبت أدراج الرياح، فما ان خرج أخي حتى وجه له أمر بإيقاف المجلة التي كان يدير شؤونها لاجل غير مسمى. اقترح البعض تغيير اسم الجريدة، ولكن أخي رأى أضرار هذه الفكرة. ثم قررنا ان أقوم أنا اسمياً بعد ذلك الحين بإدارة شؤون الجريدة وكان هذا هو ما حدث. وهكذا قدموا لي عقد عمل جديد ومرتباً افضل، وان ظل أخي يدير كل الأمور سرا لعدة شهور.

بعد مدة، حين احتدت الخلافات بيني وبين أخي من جديد قررت مواجهته لأنني كنت واثقا من عدم قدرته على ذكر الحقيقة بخصوص مركزي في الجريدة. أدركت بالطبع انه لا يجدر بي استغلال الوضع السيء الذي كنا فيه، ولكنني كنت غاضبا بسبب سوء معاملته لي اكثر من مرة. اعرف الان انه ما كان رجلا شريرا، وربما كنت أنا الذي قمت باستفزازه برعونة الصبا.

حين عرف أخي بعزمي على تركه، قام بزيارة جميع ملاكي دور الطباعة في المدينة، أقنعهم بعدم السماح لي بالعمل مما جعلني أفكر جديا بشد رحالي لنيويورك التي كانت اقرب مدينة توفر بها العمل في المجال الذي تدربت عليه. وقد كان أحد الأسباب التي جعلتني اقرر السفر التوتر بيني وبين حكام بوسطن الذين خشيت ان يزجوا بي في السجن كما فعلوا بأخي. كذلك، لاني كنت قد بالغت في نظريات الشك التي تعلمتها من سقراط، فقدت أيماني الديني، وبطيش الشباب تحاورت مع الكثيرين في هذا الموضوع، مما جعل أهل المدينة يعتبرونني من الملحدين. لكل هذه الأسباب قررت الرحيل، بالرغم من معارضة والدي للفكرة. حتى لا يقف أبي او أخي او الحكام وغيرهم ممن أغضبت في طريقي، قررت السفر بطريقة سرية. قام صديقي كولنز بالاتفاق مع قبطان سفينة متجهة لنيويورك على أساس انني قد ورطت نفسي بمشكلة عاطفية مع فتاة حملت مؤخرا، وانه ليس أمامي سوى الزواج او السفر، وأنني فضلت أهون الشرين. هكذا بعت العديد من كتبي لجمع شيء من المال وتسللت للباخرة، وخلال ثلاث أيام كنت في نيويورك وأنا في السابعة عشر، لا اعرف اي إنسان، وما معي سوى القليل من المال.

بما أنني كنت أتقن حرفة الطباعة، فقد عرضت خدماتي على السيد وليام برادفورد، الذي كان أول من طبع جريدة في نيويورك. مع انه لم يكن قادرا على تقديم اي عمل لي، ابلغني ان ابنه في فيلادلفيا قد فقد معاونه الأساسي وانه يعتقد انني سأستطيع العمل معه هناك. كانت فيلادلفيا تبعد حوالي مائة ميل، وهكذا قررت ركوب سفينة صغيرة والذهاب الى جزيرة امبوي ومنها الى هدفي.

حين وصلنا للجزيرة، اكتشفنا اننا لن نستطيع ان نرسي في اي مكان بسبب شدة الأمواج العاتية. هكذا القينا المرسى وبتنا في عمق البحر طوال الليل، وقد شاهدنا بعض الناس ينادوننا وحاولنا طلب العون منهم، ولكن شدة العاصفة حرمتنا من التفاهم معهم. شاهدنا كذلك بعض القوارب وطلبنا من البحارة إنقاذنا ولكنهم لم يفهموننا، او فهموا وما استجابوا بسبب صعوبة الحركة في مثل هذا الطقس. قررنا آنذاك النوم داخل السفينة، وتجمعنا في حجرة القبطان الصغيرة المبتلة بمياه المطر. بعد ان هدأت العاصفة في صباح اليوم التالي، نجحنا في الوصول للشاطئ. ومن هناك، بدأت رحلة الثلاثين ميل الى مدينة برلنجتون، حيث توافرت قوارب تذهب الى فيلادلفيا.

حين وصلت أخيراً لفلادلفيا كنت مرتديا ثياب العمل، وهي الأفضل لمن يستخدم البحر للتنقل. كانت ثيابي رثة وبحاجة للغسل ولم اعرف اي مكان أستطيع النوم فيه. كنت متعبا من السفر ومن التجديف وقلة الراحة، جائعا وما معي سوى دولار واحد وبعض الخردة التي قدمتها لاصحاب القارب. ومع انهم رفضوا لأنني شاركتهم في التجديف، ألا أنني الحيت، لان الفقير يكون أحيانا اكثر كرما من الثري، ربما لانه لا يريد ان يتصور الناس انه لا يملك سوى القليل.

تجولت في الشارع متطلعا لما حولي حتى شاهدت بجوار السوق طفلا يحمل شيئا من الخبز فاستعلمت منه عن موقع الخباز واتجهت اليه. وقد أسعدني رخص الأسعار لان ثلاث بنسات كفت لشراء اكثر مما احتاجه. تطلع الناس باستغراب وأنا أضع تحت ذراعي قطعتي خبز ضخمتين واتناول الثالثة. وقد تجولت في شوارع المدينة ومررت بجوار منزل السيد ريد، أب زوجتي في المستقبل، وقالت ابنته أنها شاهدتني ذلك اليوم وان منظري كان مضحكا للغاية. وقد استمررت على كل حال في التجول حتى وصلت الى شاطئ النهر مرة أخرى وشربت من مائه. قدمت القطعتين المتبقيتين من الخبز لامرأة فقيرة مسافرة مع طفلها الجائع.

عدت للتجول بعد ذلك في الشارع ولاحظت مجموعة كبيرة من الناس تتجه لذات المكان، فسرت معهم. دخلنا ألي مبنى ضخم أدركت فيما بعد انه خُصص لمناقشة أمور الدين. نمت هناك حتى انتهت فترة الاجتماع أيقظوني آنذاك. وهذا كان أول مكان ذقت فيه طعم الراحة في فيلادلفيا.

عملت بعد ذلك في شركة كيمر للطباعة، وقد كان السيد كيمر رجلا ممتازا يحترمه الجميع. ولكنه ما عرف أساس الطباعة. فقد كان يقرض الشعر ويقوم بطباعته ساعة نظمه بحروف كبيرة، مما منع اي أحد من مساعدته. وقد حاولت تعليمه كيفية استخدام أجهزة الطباعة الحديثة المتوفرة في مكتبه، والتي ما عرف اي شيء عنها، ووعدته بمعاونته في طباعة واحدة من اجمل قصائده. ذهبت بعد ذلك الى مطبعة السيد برادفورد وعملت هناك حتى استدعاني كيمر وبدانا بالعمل سويا.

ذكر أحدهم اسمي للسيد وليام كيث، حاكم المدينة، وبعد ان اطلع على بعض ما كتبت قال انني سأنجح في المستقبل، ذاكرا في سياق حديثه الذي سمعت عنه فيما بعد ان شركات الطباعة في فيلادلفيا سيئة للغاية، وانه سيعاونني لو سعيت للعمل في هذا المجال. وهكذا، شاهدت الحاكم من النافذة ومعه شخصية عسكرية كبيرة وهما يأتيان لمنزلنا ويدقان الباب. وقد اعتقد كيمر ان الزيارة له، ولكن الحاكم طلبني وعاملني بتهذيب ودماثة خلق ما عهدتهما من قبل، ولامني لعدم تعريفه بنفسي منذ وصولي الى فيلادلفيا، بل ودعاني للذهاب معه لإحدى الحانات للحديث. في ذلك المكان، عرض علي السيد كيث فتح شركة للطباعة، وشرح لي إمكانيات النجاح وتعهد بان كل ما تحتاجه الحكومة البريطانية وحكومة الولاية من مطبوعات سيقدم لي. حين أبلغته بان والدي قد لا يوافق على هذه الفكرة، قال السيد وليام انه سيكتب رسالة له، ذاكرا الفوائد المرتجاة، وانه متأكد من الحصول على الموافقة. وهكذا اتفقنا على ان اخذ الرسالة وارجع لبوسطن لتسليمها لوالدي بنفسي.

لم انجح بالحصول على المعونة المالية او حتى على الموافقة من والدي الذي رأى ان هذا كله سابق لأوانه. ولكن صديقاً اعرفه في بوسطن، جون كولنز، قرر العودة معي بعد ان اعجب بمشروعي. وقد أعطاني صديق آخر، فرنون، بعض المال كأمانة لاخذها الى فيلادلفيا، وقررت ان انفق القليل منها للعودة أعوضها بعد أيام قليلة. كانت نية كولنز ان يتركني في منتصف الطريق ما أن يعثر على عمل في واحد من المتاجر الكثيرة المنتشرة في الطريق، ولكنهم، كما يبدو، عرفوا في طبعه مساوئ تلك الشخصية التي تتناول اكثر مما يجب من المشروبات الروحية، وهكذا لم يقدر على الحصول على وظيفة، وظل يعيش معي وعلى حسابي. بعد ان عرف بأمر النقود التي أعطاني اياها فرنون، استلف مني الكثير، ووعدني بإرجاع المال حينما يعمل. في النهاية حصل على مبالغ كثيرة لدرجة انني تألمت حين تذكرت أنني ساكون مسئولا عن سداد كل هذه الديون.

التصرف بأموال فرنون كان واحداً من الأخطاء الكبيرة في حياتي، مما اثبت ان والدي كان محقا حين تصور انني لا أزال صغيرا في السن، لا امتلك التجربة الضرورية للعمل المستقل. ولكن السيد وليام بعد قراءته لرسالتي قال انه كان حذرا اكثر مما يجب، مضيفا ان هناك فروق عدة بين الشاب والرجل المسن، وان الشباب ليس بالضرورة دلالة على عدم الفطنة. ثم أضاف قائلا: "وبما انه يرفض معاونتك، فسأفعل هذا بنفسي. قدم قائمة بمستلزمات إنشاء شركة طباعة جيدة، وسأجلبها لك من بريطانيا. ستدفع لي المبلغ حين تستطيع، فانا أريد طباعة جيدة في فلادلفيا، أحس بأنك الشخص المناسب لهذا العمل." وقد قال هذه الكلمات بلطف لدرجة جعلتني أثق بكل كلمة يتفوه بها.

قدمت له قائمة بكل ما تحتاجه شركة طباعة صغيرة، بتكلفة قاربت المائة باوند. أعجبته القائمة، ولكنه طلب مني الذهاب لإنجلترا لاختيار الأنواع والتأكد من صلاحية كل ما نجلب. ثم استطرد: "قد تعثر على أصدقاء، وتتعرف على أناس تستطيع مراسلتهم بخصوص شراء ومبيعات الكتب." وافقت على هذه الفكرة فطلب مني الاستعداد لركوب باخرة القبطان ثوما أنيس التي كانت الوحيدة التي تمر على فيلادلفيا في طريقها للندن. الشهور القليلة حتى موعد رحيلها قضيتها في العمل مع كثمر، وان كنت قلقا بسبب الأموال التي أخذها كولنز مني، خاشيا كل يوم ان يطالبني فرنون بما قدم لي، وان لم يحدث هذا في واقع الامر الا بعد عدة سنوات.

أهم معارفي خلال تلك الفترة كان تشارلز اوزبورن، جوزف واتسون، وجيمس رالف، وكلهم من عشاق القراءة والكتابة. أول اثنين عملا كموظفين لدى كاتب عدل معروف أما الثالث فقد عمل مع تاجر. واتسون كان تقيا، ذكيا، وأمينا، أما الآخران فكانا اكثر مرونة في أيمانهما. رالف بالذات اضر بي تماما كما فعل كولنز من قبل. فقد ابلغني برغبته بالسفر معي الى لندن بدافع التجارة، ولكنني اكتشفت فيما بعد ان السبب كان سخطه على زوجته التي قرر هجرها. ودعت أصحابي، خصوصا السيدة كولنز التي أحببتها آنذاك، وتركت فيلادلفيا. ساعة السفر، حين ذهبت لتوديع الحاكم، حدثني السكرتير وقدم لي رسالة دمثة للغاية تقول انه لا يستطيع رؤيتي بسبب مشاغل لابد منها، وان كان يتمنى لي رحلة موفقة وعودة سريعة، الخ... عدت الى السفينة وانا غير قادر على فهم معنى عدم مقابلته لي.

كان معنا على متن الباخرة اندرو هاملتون المحامي المعروف، ومعه السيد دنهام التاجر، وشخصيات أخرى مرموقة. اما انا ورالف، فقد استأجرنا اصغر غرفة ولم يعرفنا أحد. قبل السفر، جاء القبطان فرينش وعاملني باحترام مما جعل الآخرين يعرفونني ويقدروني. وقد دُعيت للانتقال لغرفة اكبر بعد هذا التكريم.

حين وصلنا لبريطانيا، سمح لي القبطان بالنظر لرسائل الحاكم، التي لم أر بينها اي رسالة تقدم لي راس مال او تسمح لي بشراء مواد طباعة. بدأت اشك بإخلاص الرجل لي، فطلبت النصح من السيد دنهام، وقصصت عليه قصتي. ابلغني بان الحاكم لم ولن يكتب رسالة لي، وانه ما ساعد اي مخلوق طول حياته لانه مبذار لا يملك أساسا اي شيء من المال. حين سألته عما يجدر بي فعله، نصحني بالبحث عن وظيفة في مجال عملي: "بين أصحاب المطابع هنا، ستتعلم الكثير، وحين تعود لأمريكا ستستطيع فتح شركتك بعد ان تكون قد تعلمت ما يكفي وعركت الحياة."

اشتدت صداقتي مع رالف بعد ان سكنا سويا في منطقة فقيرة في قلب لندن. مع انه عثر على بعض الأقارب، الا انهم كانوا فقراء غير قادرين على مساعدته. ابلغني الان برغبته في البقاء هنا. لم يكن قد جلب معه اي شيء من المال، لانه صرف كل ما يملك على السفر. كان معي القليل الذي استدانه حتى يعثر على وظيفة. اما انا، فعثرت على العمل بسرعة في شركة بالمر للطباعة وعملت بجدية، ولكنني أنفقت كل ما ربحته على المسرح والتسلية. وهكذا كنا ننفق كل ما كنت اجمع من مال، وعشنا لليوم. نسى بسرعة زوجته، ونسيت انا كذلك خطيبتي السيدة ريد التي لم اكتب لها سوى رسالة واحدة لابلاغها اني ساتاخر. وهكذا قضيت ثمانية عشر شهرا في لندن أبقاني رالف خلالها فقيرا: فقد استدان مني حوالي 27 باونا بريطانيا ما كنت أتوقع ابدا رجوعها لي. أحببته بالرغم من هذا لانه تمتع بشخصية لطيفة.

في شركة بالمرز، عملت على أعداد الطبعة الثانية من كتاب ولستن ديانة الطبيعة. لان بعض أفكار الكاتب بدت لي غير سوية، كتبت مقالة انتقدته فيها بعنوان "دراسة عن الحرية والضرورة، الألم واللذة،" وقد قدرني السيد بالمر بعد قراءته لهذا العمل وان انتقد أفكاري.[2] نشري لهذا المقال كان خطأ آخر.

قدم لي السيد كيمر عرض مغر لإدارة شركة الطباعة التي يمتلكها، ولكنني ما رغبت بهذا لان سمعة الرجل كانت سيئة. حاولت الحصول على العمل بأجور جيدة في شركة أخرى، ولكنني لم أوافق. وهكذا اضطررت للعمل معه. اكتشفت بسرعة ان الهدف من الأجور المرتفعة التي قُدمت كان تدريب الأيدي العاملة الرخيصة بحيث يمكن التخلص مني بأسرع فرصة. مع ذلك استمررت: قمت بتنظيم المطابع وعلمت العمال كيفية إنجاز العمل. ولكن، وبالرغم من خدماتي واخلاصي، اكتشفت ان الحاجة لي قلت بسرعة. حين دفع كيمر لي الأجور للثلاث شهور الثانية، ابلغني ان الأجر مرتفع للغاية وانه يجدر بي تخفيضه. وهكذا قل تهذيبه شيئا فشيئاً وساءت معاملته لي وبحث عن الأخطاء والخلافات. استحملته معتقدا ان الديون التي عاني منها هي سبب توتره النفسي. واخيرا احتد الخلاف بيننا بسبب مسالة بسيطة: فقد سمعت ذات يوم أصوات عالية في الشارع، وحين تطلعت من النافذة شاهدني كيمر وصرخ في بصوت غاضب طالبا مني الرجوع لعملي، وكان هذا أمام أعين الجيران الذين شاهدوا كل شيء. ثم جاء بسرعة للمطبعة للاستمرار في الزعيق. آنذاك، وضعت قبعتي على رأسي وأبلغته باستقالتي وذهبت، طالباً من مرديث، أحد العمال، جلب باقي أغراضي لمنزلي في المساء.

جاء الرجل في موعده وتحدثنا عما حدث. كان حزينا لاستقالتي ورغب بالذهاب معي. أقنعني بعدم الرجوع الى موطني الأم وهو ما كنت جديا أفكر فيه، وذكرني بان كل أملاك كيمر هي عبارة عن ديون، وان الدائنين غير راضين بهذا الوضع، وانه سيكون بإمكاني الاستفادة من الفراغ الذي سيحدث حين يترك هذا المجال. ثم ابلغني ان والده يقدرني كثيرا، وانه سيقدم المال لي لو وافقت على مشاركته: "عقدي مع كيمر سينتهي في الربيع، وخلال هذا الوقت سنعد آلات الطباعة. لأنني لا اعرف الكثير عن هذا المجال، فسأقدم لك نصف الربح، واحتفظ بالنصف الآخر كممول." اعجني العرض ووافقت عليه. والده كذلك تحمس للفكرة، خصوصا حين رأى تأثيري على ابنه، وتمنى ان أساعده في التخلص من عادة الشرب التي عانى منها حين سنعمل سويا.

كان لما آمنت به من قيم اثر كبير على حياتي، وارغب الان بذكر نموي الروحي: منذ طفولتي، علمني والدي أسس الدين المسيحي القويمة. ولكنني لم أكد ابلغ الخامسة عشر حتى بدأت بالشك بأمور كثيرة، منها العقيدة نفسها. قرأت بعض الكتب التي أكدت وجود الخالق وان شككت بإمكانية إرساله كتباً مقدسة للناس، واقتنعت بها. أضرت أفكاري الخاطئة بآخرين مثل كولنز ووولف، ولكن كلاهما أضراني بتصرفاتهما، وحين تذكرت تصرفات كيث (الذي آمن بذات المبادئ التي أمنت بها) وتصرفاتي انا تجاه فرنون والسيدة ريد، بدأت اشك بان هذه النظرية، حتى وان صدقت، ليست مفيدة أبداً في تعليم الناس أسس التعامل الصحيحة مع بعضهم البعض. بدت لي نظرية الدراسة التي نشرتها في لندن، حيث ادعيت ان الفضيلة والرذيلة سواء، خاطئة، وأنها أضرت بفكري كثيرا.

منذ ذلك الحين، صرت مؤمنا بان الصدق والإخلاص والأمانة كلها ضرورية للتعامل مع الناس بنجاح، وكتبت في يومياتي اكثر من مرة عن رغبتي بالتمسك بهذه الصفات طول عمري. مع أنني لم أؤمن بالتوراة والإنجيل، ولكني رأيت انه، بغض النظر عن المسموح والممنوع في الدين، هنالك فعل محرم لانه يضر بالناس في تعاملاتهم، وفعل آخر يمتدحه الجميع لانه يفيد الكل. هذه العقيدة حفظتني عبر أيام الشباب الخطرة وعبر أيام قضيتها بين أغراب، بعيدا عن والدي واخوتي، حتى أنني لم ارتكب متعمدا اي أعمال شريرة سلبت حقوق غيري. أقول متعمدا، لان بعض أفعالي السيئة نتجت عن صغر السن، وقلة الخبرة، وطمع الآخرين. كان لدي اذا شخصية لا باس بها في بداية رحلتي في العالم، وقد قدرت هذا، وصممت على المحافظة على الصالح من صفات هذه الشخصية.

بعد عودتي لفيلادلفيا، وصلت آلات الطباعة من لندن. عملت مع كيمر حتى وصلت الأجهزة وسمح لي بترك العمل بعد وصولها وان ما كان على علم بما نويت فعله آنذاك. اشتريت منزلا بجوار السوق، ولتخفيض سعره المرتفع سمحت لرجل يدعى ثوماس جود فري، وكان عالما في الرياضيات وعلم الملاحة، وأسرته بالسكن معنا. أسعدتني زيارة رجل ريفي لنا لطباعة بعض الأوراق لحظة فتح الشركة لان أموالنا كانت قد نفذت فعلا. بسبب المساعدة التي تلقيتها في حياتي حتى ساعة النجاح، كنت دائما مستعدا لمعاونة الآخرين من الشباب في بداية الطريق.

خلال تلك الفترة، جمعت افضل أصحابي في نادٍ للمعرفة. تقابلنا كل يوم جمعة. القواعد التي صنعتها طالبت كل مشترك بتقديم بحث جاد عن القضايا السياسية، القيم الأخلاقية، او الفلسفة الطبيعية، بحيث يناقشه الآخرين، ومرة كل ثلاث شهور، قراءة مقال كتبه في اي موضوع يعجبه. حواراتنا كانت تحت قيادة رئيس، والهدف منها المعرفة، لا الرغبة في التفوق. وللتخلص من الخلاف منعنا كل أنواع النقد الحاد، وكان هنالك غرامات بسيطة لمن لا يحترم هذا القانون. وقد استمر النادي في ممارسة نشاطاته حوالي أربعين عاما، وكان افضل مدرسة للسياسة والفلسفة في الولاية. البحوث التي طُرحت للنقاش جلبت لنا معلومات جديدة وعلمتنا كذلك أسس الحوار الناجح.

ذات مساء، جاءني جورج ويب راغبا في العمل معي. لم تكن لدي القدرة على توظيفه، ولكنني أبلغته، بغباء، أنني انوي إنشاء جريدة ستسمح له بالعمل. قلت له ان أملى في النجاح تلخص في كون الجريدة الوحيدة الموجودة، التي أدارها جورج برادفورد، سيئة للغاية، بلا ترفيه او صفحات ثقافية، ومع ذلك كانت مربحة له. طلبت من ويب عدم نقل هذه المعلومات، ولكنه ابلغها لكيمر الذي تقدم سريعا بطلب نشر جريدة لمنافستي. أغضبني هذا التصرف وللرد، قمت بكتابة بعض المقالات الساخرة لمجلة برادفورد لعدة شهور. بهذه الطريقة، اهتم القراء بهذه الجريدة، بينما فشل مشروع كيمر وعرض جريدته للبيع علي بسعر رخيص، فاشتريتها، وكانت صفقة مربحة جدا خلال أعوام قليلة.

في شتاء سنة 1729، طلب الناس المزيد من أوراق المال، لان ما كان متوفرا ما زاد عن خمس عشرة ألف باوند. عارض الأثرياء الفكرة لانهم خشوا انخفاض سعر العملة كما حدث في مناطق أخرى. كنا قد ناقشنا هذا الموضوع في نادينا، وكنت في صف الموافقين على الإضافة، لان آخر مبلغ أضيف منذ ستة أعوام زاد من كم التبادل التجاري والعمالة وحتى عدد السكان. كل المساكن القديمة سُكنت، بينما بُنيت مساكن جديدة. بينما كنت لا أزال اذكر أنني حين رأيت فيلادلفيا لاول مرة، كان هنالك الكثير من المنازل المعروضة للإيجار، وكان الناس يهاجرون منها.

كنت مهتماً بتلك الحوارات لدرجة كتابة مقال بعنوان "طبيعة وضرورة الاوراق المالية." وقد اعجبت افكاري عموم الناس وان كرهها الاثرياء، لأنها زادت من شدة الطلب على أوراق النقد. ولكن، لان الأثرياء ما كان لهم كتاب يعبرون عن وجهة نظرهم لم يستطيعوا مواجهة أفكاري ووافق مجلس المدينة على الفكرة. بل ان بعض الأصحاب في المجلس لشكري على ما بذلت من جهد في هذا الموضوع قدموا لي عرض لطباعة المال، مما جلب لي ربحا كبيرا. بعد ذلك، حصلت على عروض لطباعة النقود لمناطق أخرى في أمريكا. كل هذا كان فائدة أخرى نتجت من قدرتي على الكتابة. وقد أثبتت الأيام صدق نظريتي حتى ما عاد أحد يشكك فيها. فقد زاد عدد الأموال المتوفرة من خمس الاف الى خمسين ألفا، وفي عام 1739 الى 80000 باوند، ثم الى مائة وخمسون ألفاًـ مما زاد من التجارة والتعمير وحتى عدد السكان-وان كنت اعتقد الان ان هنالك حدودا لو تم تجاوزها لاضرت بالاقتصاد.

بدأت شيئا فشيئاً بدفع الديون حتى أتستطيع امتلاك المطبعة. للحصول على ثقة الناس بي عملت بجهد، وسعيت كذلك لان يراني الآخرون كرجل أعمال يقضي كل وقته في العمل وتجنبت اي مظهر يجعلهم يتصورون العكس. كانت ثيابي بسيطة، ولم اذهب لاي مكان للهو ولا لرحلات الصيد. لأنني حرصت دائما على دفع ثمن ما اقتنيت، اتى التجار الي واحبوا التعامل معي. خلال تلك الفترة، ضعفت أعمال كيمر كل يوم حتى باع الشركة لتسديد الديون. عاش معدما بعد ذلك عدة سنوات في بلد أخرى.

لم يبق لي الان منافس في فلادلفيا سوى السيد برادفورد الذي كان لا يطبع سوى القليل، ولكن الأمر لم يهمه بسبب ثروته. ومع ذلك، لانه امتلك مكتبا للبريد تصور الناس ان افضل واخر الأخبار تصل لجريدته، مما نفعه كثيرا، وخصوصا لان الشركات قدمت له إعلانات افضل. وقد منعني من نقل جرائدي ومنشوراتي بالبريد، مما قلل من احترامي له كثيرا. جرائدي على كل حال نُقلت عبر بريده عن طريق رشوة بعض الموظفين، ولكنني كنت افضل التعامل بطريقة أخرى.

بدأت خلال هذه الفترة أول مشروع إصلاحي لخدمة المجتمع، وكان عن طريق افتتاح مكتبة عامة هي الأولى من نوعها في الولايات المتحدة. فبمساعدة الأصحاب في النادي، حصلت على خمسين مشترك دفع كل منهم أربعين شلنا للاشتراك المبدئي، وعشر شلنات سنويا لمدة خمسين عاما. وقد صارت هذه المكتبة اليوم واحدة من اضخم المكتبات في هذه الدولة. وقد حاكى آخرون هذا المشروع، وأزداد عدد المكتبات العامة مما حسن قدرة الناس على الحوار، وجعل المرء العادي يتعلم حتى صار على ذات الستوى الثقافي مع نظيره الإنجليزي. بل ان الثقافة الجديدة قد تكون ساهمت في رفع إحساس الشعب بقوميته ورفضه للتضحية بحقوقه.[3]

ردد والدي كثيرا أمامي أثناء طفولتي قول سليمان المعروف: "ارايت رجلا مجتهدا في عمله؟ يقف أمام الملوك، ولايقف أمام الرعاع"، مما جعلني اعتبر العمل وسيلة للوصول للثروة والتميز الاجتماعي، وشجعني كثيرا. ومع أنني لم أتصور ابدا انني سأقف فعلا أمام الملوك، فقد حدث هذا، ووقفت أمام خمسة وتناولت العشاء مع واحد منهم-ملك الدانمرك.

في عام 1739 جاءنا من ايرلندا القسيس وايتفيلد، الشخصية المعروفة بالخطب المؤثرة. في البداية، سمح بعض القساوسة له بالوعظ في كنائسهم، ولكن الكثيرين من الشخصيات الهامة في البلدة كرهوه، مما اضطره للوعظ في الحقول. أعداد ضخمة جداً من الناس حضرت للاستماع، وقد حيرني سبب تأثيره القوي عليهم وتبجيلهم له، مع انه كان في أحيان كثيرة يحقرهم، قائلا ان نصفهم مكون من الحيوان، والنصف الآخر من الشيطان. ولكن تأثيره الإيجابي على الناس كان واضحاً: فمن عدم الاهتمام وحتى عدم التفكير بالدين، تحولوا ما بين عشية وضحاها للتدين، بحيث ما عاد من الممكن التجول في شوارع المدينة في المساء بدون الاستماع لصلوات الشكر.

ما ان أحس الناس بانه لا يجدر بخطيبهم البقاء في الحقول تحت رحمة الطبيعة حتى بدءوا بالتبرع وجمع المال لاقتناء ارض وبناء مبنى كبير للغاية. استمر العمل بحيوية بعد ذلك حتى تم الإنجاز، وتقرر استخدامه لكل من يرغب بتعليم اهل فيلادلفيا ما يخص أمور دينهم ودنياهم. لم يكن الهدف من البناء إيواء مجموعة دينية محددة، بل كان مفتوحاً للجميع. حتى لو أراد مفتي استنبول ان يبعث برسول لتعليمنا ديانة الإسلام، لوجد منبراً يتحدث منه.

كنت بشكل عام قانع باختياري فيلادلفيا للحياة فيها. ولكن ما آسفني هو عدم وجود نظام تعليمي جيد في هذه المنطقة. في عام 1743، قدمت خطة لإنشاء الجامعة، ولكن المشروع لم يوفق لعدم توفر شخص يمكنه تحمل مسئولية الدعاية له وإفهام الناس بضروراته وقد رفض القس بيتر معاونتي بسبب كثرة أعماله مما جمد الفكرة.

تحدثت في عام 1747 مع بعض الأصدقاء في النادي عن فكرة الجامعة، واتفقنا على أهمية الموضوع. نشرت بعد ذلك مقالا سميته "اقتراحات بخصوص تعليم شباب بنسلفينيا"، ووزعته مجاناً على السكان، وما ان بدا لي ان الناس قد تقبلوا الفكرة مبدئياً حتى اقترحت عليهم التبرع لتنفيذها. ونظراً لكبر المبلغ المطلوب، قسمته على خمسة أعوام جمعنا في نهايتها حوالي خمسة آلاف باوند.

وقد قرر المشتركون في اللجنة التي أنيطت بها عملية جمع التبرعات والمحافظة عليها البدء في تطبيق المشروع فوراً. وبمعاونتي بدأت الدراسة في 1749. بسبب ازدياد عدد الطلاب، بدأنا بالتفكير في شراء مقر دائم وعثرنا على البناء الملائم الذي لن يتطلب سوى أجراء تغييرات بسيطة. وقد كان ذات المبنى الذي تحدثت عنه سابقاً، الذي انشاه جمهور السيد وايتفيدل. فقد كان الحماس المبدئي للبناء قد ضعف، وازدادت الديون على الأرض التي انُشيء عليها. بعد ان اقترحت على لجنة الأمناء على المبنى، ولجنة الأمناء على أموال تبرعات التعليم، الفكرة، وتفاوضت مع المجموعتين، قرر أصحاب المبنى التخلي عنه مقابل التخلص من الدين، ومقابل إبقاء غرفة كبيرة لكل من يرغب في الحديث عن أمور الدين. وهكذا تحول المبنى الى أساس الجامعة بعد إضافة غرف جديدة له. وقد كنت انا المسئول عن جلب العمال، وشراء مواد البناء، وإدارة العمل، وقمت بكل هذا راضياً.

ازدادت موارد الكلية بعد ان وصلتها تبرعات من بريطانيا أراض جديدة. وبهذه الطريقة أنشأت جامعة فيلادلفيا التي كنت وما زلت واحدا من الأمناء عليها، ولمدة أربعون عاماً. ولقد أفرحتني رؤية الطلاب يتخرجون منها، وينجحون في الحياة بسبب ما تعلموه، ويصيرون مفخرة لبلادهم.

في أواسط العمر، سعيت للوصول للكمال في سلوكي، بحيث أعيش بدون ان ارتكب اي خطأ في اي وقت. أردت ان أتفوق على قوة رغباتي، وحتى على الشر الذي يمكن ان يقودني له رفاق السوء. لم أر لماذا لا يستطيع الإنسان ان يكون عظيما دائما. ولكني سرعان ما اكتشفت ان ما رمت كان أمرا في غاية الصعوبة. فبينما كنت أسعى جاهدا بكل ما املك من وعي للتخلص من سلوك سيئ، فاجئني سلوك آخر لم أفكر فيه مسبقا. العادة استغلت كل لحظة ضعف وكانت الرغبة في أحيان كثيرة أقوى من العقل. استنتجت في النهاية ان مجرد وجود النظرية القائلة ان الفضيلة صفة مفيدة لمن يمتلكها غير كافية لمنعنا من ممارسة الرذائل، وان الخصال السيئة إنما هي عادات ضارة لابد من التحرر منها وتبديلها بنقضيها قبل ان يستطيع الإنسان الثقة في سلوكه.

قوائم الفضائل التي اطلعت عليها أثناء دراستي كثيرة ومتعددة، تختلف باختلاف الكاتب. الاعتدال، مثلا، يعني للبعض السيطرة على الرغبة في الإفراط في الطعام والشراب، بينما يعنى لغيرهم عدم الإفراط في كل اللذات، الشهوات، والطباع، والعواطف، وحتى الطمع والطموح. قررت، بسبب رغبتي في الوضوح، ان أورد معنى كل فضيلة، واذكر الان اثنتي عشر صفة حميدة كل منها تبدو لي ضرورية أو مرغوب بها، وبجوارها ما تعنيه:



لا تأكل حتى يثقل جسمك، لاتشرب حتى تنتشي. تجنب التطرف في كل شيء.
1-الاعتدال:

لاتقل الا ما يفيدك ويفيد الاخرين. تجنب الكلام الفارغ.
2-الصمت:

دع كل من اغراضك في مكانه. دع لكل من اعمالك الوقت الكافي لاتمامه باتقان.
3-النظام:

صمم على فعل مايجدر بك فعله، وافعل ما صممت على فعله.
4-التصميم:

لاتصرف من المال اكثر مما يفيدك ويفيد الاخرين. لاتهدر النقود.
5-الاقتصاد:

لاتضيع وقتك. اعمل دائما في كل ماهو مفيد وتخلص من كل ماهو غير ضروري.
6-النشاط:

لاتضر الاخرين بخداعك. كن عادلا بريئا في افكارك وتحدث بصدق.
7-الاخلاص:

لاتغبط الاخرين حقوقهم المشروعة.
8-العدالة:

لا تقبل بقذارة الجسد او الثوب اومكان السكن.
9-النظافة:

لاتدع توافه الامور تؤثر عليك.
10-رباط الجاش:

لاتقبل على الجنس الا للصحة والانجاب، ولا تمارسه ابدا لدرجة الانهاك، او الضعف.
11-العفة:

قلد المسيح وسقراط.
12-التواضع:




مع انني رغبت بامتلاك السلوك المعبر عن كل هذه الفضائل، الا انني ادركت صعوبة التحكم بها جميعا في ذات الوقت. ولذلك فضلت ان أركز على واحدة، وبعد التحكم بها، انتقل للتالية، وهكذا دواليك، حتى أسيطر عليهم جميعها. الاعتدال ياتي أولا، لانه سيسهل التفكير الصحيح الذي يعطي للانسان القوة لمواجهة العادات الشريرة المستأصلة. الصمت كان ثانيا، ليحررني من طبع التهريج بحيث استبدل اللسان بالأذن التي سيفيدني استخدامها كثيرا للتعلم مما اسمع. اما التنظيم، فسيهبني الكثير من الوقت للتركيز على مشروعي ودراساتي. التصميم بالطبع سيدفعني للاستمرار في التحسن. الاقتصاد والنشاط سيحررانني من الدين الباقي ويعطياني الثراء والحرية ويسمحان لي بممارسة الإخلاص والعدالة، الخ.... رغبتي بالنظام تطلبت ان اقدم لكل عمل ما يستدعيه من وقت. وقد كتبت هذا المنهج الذي اتبعته في عملي لمدة طويلة:

الاستيقاظ، الاستحمام، الصلاة. التفكر في، واتخاذ قرار، اليوم. قراءة. إفطار.
5-7 صباحا:




سؤال الصباح: ماذا سيكون عملي الصالح هذا اليوم؟

عمل
8-11صباحا:

قراءة. حسابات العمل. تناول وجبة الظهيرة.
منتصف النهار:

إتمام عمل اليوم.
1-5مساء:

تنظيم المنزل. موسيقى أو حوار مع الأصحاب.
6-9 مساء:


امتحان اليوم: ماذا فعلت من خير هذا اليوم؟



كانت قائمة الفضائل تحتوي على إحدى عشرة فضيلة فقط، ولكن أحد الأصدقاء ابلغني بان الناس يقولون أنى متكبر، وان كبري يبدو في الحوار حيث لا ارغب في إثبات صواب منطقي فحسب، بل بإذلال المحاور كذلك. اقتنعت بهذا بعد ان ذكر محاوري عدة أمثلة. نويت مشافاة نفسي، لو كان ذلك ممكنا، من هذه الصفة السيئة، وأضفت التواضع لقائمة الفضائل التي أريد التحلي بها. ان كنت لا أستطيع التفاخر في نجاحي للوصول للتواضع الروحي، فقد فعلت كثيرا لأبدو متواضعا للآخرين. في الواقع، يظل كبر النفس أسوء الرذائل أصعبها مراسا. أخفيها، اكبتها، حاول قتلها او تدميرها، ومع ذلك فستبقى، وتظهر واضحة جلية في التصرف. وحتى لو تصورت تفوقي التام على الكبر، فسيكون هذا في حد ذاته سببا آخر للتكبر.





--------------------------------------------------------------------------------

[1] النص الذي نعتمد عليه هنا هو:”The Autobiography of Benjamin Franklin.” Ed. Scully Bradley. In the American Tradition in Literature. New York: Norton, 1967.

[2] يقول وليام ولستون (1660-1724) في هذا الكتاب ان الصح والخطء، كما تعرفهما الديانة المسيحية، مبنيان على منطق مواز لقوانين الطبيعة. في سياق رده على هذه الافكار، يقول فرانكلين ان تصرفات الانسان مبنية على اللذة والالم فحسب. ولكنه تخلى عن هذه الافكار فيما بعد.

[3] تنتهي هنا الاوراق التي اتمها فرانكلين سنة 1771. بقية المذكرات، التي نترجم هنا جزء منها، كتبت سنة 1784.

3 Comments:

Blogger Unknown said...

رائع جدا رجل عظيم شكرا على الترجمه أتمنى أن تترجم بقية المذكرات لكي نستفيد أكثر

5:13 PM  
Blogger slepi said...

This comment has been removed by the author.

9:38 AM  
Blogger slepi said...

رائع شكرا لكم شيء عظيم ان تقرء لاشخاص عظماء و تستفيد منهم

9:39 AM  

Post a Comment

<< Home