Friday, March 03, 2006

كليمنصو صورة رجل حر


كليمنصو صورة رجل حر
تأليف :جان نويل جانيني



مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور جان نويل جانيني الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس والوزير الفرنسي السابق. وهو مختص بالتاريخ السياسي المعاصر لفرنسا. وكان قد نشر كتب عدة في هذا الاتجاه. ثم عينته الحكومة عام 2002 رئيساً للمكتبة الوطنية لفرنسا.


وفي هذا الكتاب الجديد يتحدث المؤلف عن إحدى الشخصيات السياسية الأكثر أهمية في تاريخ فرنسا المعاصرة: جورج كليمنصو. ويرى المؤلف أن هذا الرجل المحنك الملقب بالنمر نظراً لجرأته وإقدامه كان من أهم شخصيات الجمهورية الثالثة التي حكمت فرنسا منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى أربعينيات القرن العشرين.


وقد كان جورج كليمنصو ذا أوجه متعددة: فهو عمدة بلدية باريس أثناء الكومونة الشهيرة حيث ثار العمال والشعب الفقير على البورجوازية التي قمعت الثورة بالدم. وهو طبيب الفقراء في بعض أحياء العاصمة حيث كان يداويهم دون مقابل. وكان أيضاً من أشد أعداء السياسة الاستعمارية لفرنسا على عكس ما يتوهم الكثيرون.


وقد اشتغل في الصحافة أيضاً، بل وأسس بعض الصحف ودعا إلى حرية التعبير بل ومارسها. وقد ناضل ضد اليمين المتطرف الفرنسي من أجل القضايا العادلة. كما وكان من أكبر أنصار العلمانية التي تساوي بين جميع المواطنين بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم. وأخيراً فإن جورج كليمنصو يعتبر بمثابة أب الانتصار الفرنسي على الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى. وهو الذي ترأس مؤتمر السلام الشهير في فرساي عام 1919. وقد حضره كبار زعماء العالم ومن بينهم الأمير فيصل وسواه من القادة العرب.


وبالتالي فالرجل كانت له أوجه متعددة، أو قل كان أمة وحده كمعظم القادة التاريخيين. ويبدو ان جد المؤلف كان أحد كبار معاوني كليمنصو. ولذلك فإنه يقدم عنه صورة حية مستمدة من ذكريات والده وعائلته.


ولد جورج كليمنصو عام 1841 في أحد الأرياف الفرنسية البعيدة عن باريس (منطقة البريتاني). وقد أمضى طفولته إما في المزرعة الريفية لعائلته أو في مدينة «نانت» حيث كان يشتغل أبوه طبيباً.


ويبدو أن والده كان قوي الشخصية، وقد أثر عليه كثيراً. وكان أناس المنطقة ينقسمون إلى قسمين: إما ملكيون محافظون إن لم نقل رجعيين، وإما جمهوريون تقدميون معادون للاكليروس المسيحي وفرنسا القديمة. وكان أبوه من النوع الثاني بشكل صريح. كان مفعماً بفلسفة التنوير وحب الثورة الفرنسية وبالأخص روبسبيير.


وقد سجن أبوه عام 1851 لأنه كان ضد إعادة النظام الملكي ـ الامبراطوري إلى فرنسا وإسقاط النظام الجمهوري. ثم سجن مرة ثانية عام 1858 بسبب أفكاره الثورية والجمهورية العلمانية. وكان عمر ابنه جورج آنذاك سبعة عشر عاماً. وقد أقسم يميناً بالله انه سينتقم لوالده.


ثم يردف المؤلف قائلاً: وفي عام 1861 أصبح جورج كليمنصو كاتباً في جريدة صغيرة تدعى جريدة «العمل». وقد عبر فيها عن أفكاره بعنف وحماسة شديدة إلى درجة ان السلطات اعتقلته بحجة الحض على الحقد ضد الآخرين: أي ضد الخصوم السياسيين لوالده.


ثم أنهى دراسة الطب بعدما ناقش أطروحته عام 1865. ولكن قبل أن يفتح عيادته الخاصة ويستقر قرر الذهاب إلى الولايات المتحدة. وبما ان والده كان غنياً نسبياً فقد أعطاه المال الكافي لتحقيق حلمه.


وفي الطريق إلى نيويورك مر بلندن حيث التقى بالفيلسوف الشهير جون ستيوارت ميل. وتناقش معه في أمور شتى من سياسية ودينية وفلسفية.


وبعدئذ أبحر إلى نيويورك. وهناك وجد ان أميركا لا تزال تضمد جراحها بعد الحرب الشهيرة بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية بشأن نظام الرق أو الاستعباد.


وقد ذهب إلى الولايات الجنوبية لكي يرى الأمور بنفسه.


وراعه الوضع المأساوي للسود. ومعلوم ان ابراهام لينكولن كان قد اغتيل للتو بسبب دفاعه عنهم وخلافه الحاد مع العنصريين البيض. وسوف يظل جورج كليمنصو طيلة حياته كلها معجباً بهذا القائد الأميركي الفذ الذي وقف ضد شعبه من أجل تحرير السود، ثم دفع روحه ثمناً لذلك. فأغلبية البيض كانت تحتقر السود آنذاك في الواقع.


ثم عاد إلى نيويورك لكي يصبح مراسلاً لجريدة «الزمن» الفرنسية. وكان يوقع مقالاته تحت عنوان: رسائل من الولايات المتحدة الأميركية. وفي ذات الوقت راح يعطي دروساً في اللغة الفرنسية لطالبات إحدى المدارس الثانوية الأميركية.


وهناك وقع في حب فتاة أميركية تدعى: ماري بلومير. واتفقا على الزواج. ولكنه اشترط عليها الزواج المدني وعدم المرور بالكنيسة والكهنة. فجن جنون عائلتها المتدينة. ورفضوا بشكل قاطع، ورفض هو أيضاً أي مباركة لرجال الدين لزواجه!


وهكذا عاد إلى فرنسا مخلفاً حبيبته وراءه. ولكن عائلتها سرعان ما تراجعت عن موقفها بعد أن رأت مدى حزن ابنتها. فراسلوه وطلبوا منه الرجوع للزواج منها. وهكذا كان. فقد عاد بها إلى فرنسا حيث تزوجها في البلدية أمام العمدة رافضاً المرور بالكنيسة أو الوقوف أمام أي كاهن كائناً من كان! وهكذا أثبت جورج كليمنصو انه علماني قح ويريد تصفية حساباته مع الكهنة والأصوليين المسيحيين.


ومعلوم ان فرنسا كانت مقسومة آنذاك إلى قسمين: قسم كاثوليكي محافظ، وقسم علماني، جمهوري، تقدمي، مستنير. ثم يردف المؤلف قائلاً: وفي عام 1870 سقط النظام الملكي الامبراطوري وعاد النظام الجمهوري إلى الساحة من جديد. وعندئذ عينوه عمدة لبلدية مونمارتر في باريس. وهكذا دخل معترك السياسة من أسفل السلم كما يقال.


ثم انتخبوه نائباً في البرلمان. وجلس في مقاعد اليسار بل وحتى أقصى اليسار. وكان معظم النواب من الملكيين المحافظين. وكان ينظر إليهم شزراً، وينظرون إليه وكأنه إرهابي متطرف! والواقع أن برنامجه السياسي كان يخيف حتى أصدقاءه الاشتراكيين. فقد كان يطالب بفرض ضريبة على الأغنياء من أجل توزيعها على الفقراء. وفي ذات الوقت طالب بحل الرهبانيات المسيحية والأديرة! كما وطالب بتوزيع الثروة على الشعب.. وكل هذه الأشياء التي أرعبت معاصريه سوف تتحقق لاحقاً ولكن بعد خمسين سنة.


ثم اختلف مع جول فيري حول قضية الاستعمار. فهذا الأخير كان يقول بأن الاستعمار ضروري لإدخال الشعوب المتخلفة والهمجية في الحضارة. وأما جورج كليمنصو فكان مضاداً لهذا الموقف وبعنف. ولذلك خرج من حكومة «فيري» عندما ابتدأ هذا الأخير باستعمار تونس بعد الجزائر.


ثم ساهم كليمنصو في إسقاط وزارات عدة متعاقبة. ولهذا السبب تآمر عليه الجميع وأسقطوه في الانتخابات. ولذلك وجد نفسه وهو في الخمسين من العمر خارج البرلمان لأول مرة، وبدون أصدقاء، ومثقلاً بالديون. ولكن «النمر» لم يستسلم للهزيمة، وإنما راح يحضر نفسه للانتقام.


وبانتظار أن يحصل ذلك يوماً ما راح يشتغل في مهنته الثانية: الصحافة. وراح ينشر المقالات الواحدة تلو الأخرى للتعبير عن أفكاره. بل وراح يقترب من كبار الأدباء والفنانين في تلك الفترة: كالروائي إميل زولا، والرسام مونيه، والنحات الشهير رودان.


ثم شاءت الصدف أن يعود إلى السلطة من جديد. فقد أصبح وزير الداخلية ثم رئيس الوزراء عام 1906. وكان قد بلغ الخامسة والستين من عمره. وبره كليمنصو على انه قادر على إدارة شؤون البلاد. ولكن ساعة كليمنصو لم تحن بعد. ولن تحين قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. عندئذ سلمت فرنسا نفسها له لكي يحكمها كما يشاء بشرط أن ينجيها من خطر الألمان الزاحفين على باريس.


وهذا ما كان. فقد حكم البلاد بشكل ديكتاتوري وبيد من حديد. وكان الوزراء والجنرالات يخضعون له كالأطفال الصغار. وبعد أن تقدم الجيش الألماني كثيراً نحو باريس واخترق دفاعات الجيش الفرنسي، استطاع كليمنصو أن يعكس التيار ويحقق الانتصار لفرنسا. وعندئذ ازدادت شعبيته بشكل لا مثيل له وأصبح بمثابة البطل القومي الذي سيجسده ديغول من بعده بفترة قصيرة. عندئذ بلغ كليمنصو ذروة حياته السياسية.


فكل الهجمات التي شنها الجيش الألماني استطاع صدها مجبراً الألمان على التراجع والفرار بل وطلب الهدنة بكل استعطاف ومذلة. والواقع ان كليمنصو انتقم من الألمان شر انتقام في مؤتمر السلام بفرساي عندما فرض عليهم شروطاً تعجيزية اضطروا إلى قبولها بسبب هزيمتهم ووضعهم المتردي على الأصعدة والمستويات كافة. وقد لامه الرئيس الأميركي وبعض قادة العالم الآخرين لانه أجبر الألمان على التوقيع على معاهدة مجحفة بالنسبة لهم.


وقالوا له بأن ذلك شيء خطير وقد يؤدي إلى رد فعل لاحق لا تحمد عقباه. ولكنه لم يستمع إليهم.


فنزعة الانتقام لديه كانت أكبر من كل شيء. والواقع أن نبوءة المتشائمين تحققت بعد وقت قصير عندما صعد هتلر على سدة السلطة في ألمانيا الجريحة وسلمه الشعب الألماني مقاليده لكي يرد عنه الحيف والجور الذي لحق به في معاهدة فرساي. والبقية معروفة.


وبعد نهاية الحرب شعر الفرنسيون بفرح شديد ونزلوا إلى الشارع ابتهاجاً بالحدث التاريخي وهم يهتفون باسم قائدهم: جورج كليمنصو. فقد استطاع أن ينهي أكبر مجزرة في التاريخ لصالحهم على الرغم من ضراوة الهجوم الألماني على باريس.


وذهب كليمنصو إلى البرلمان وصعد على المنصة وألقى خطاباً قصيراً ختمه بهذه العبارة الشهيرة: لقد كانت فرنسا الجندي المدافع عن المسيحية سابقاً ولكنها الآن الجندي المدافع عن القانون وحقوق الإنسان. وعلى أية حال فسوف تظل الجندي المدافع عن المثل العليا التي تحكم بها كل الشعوب في العالم.


وهذه العبارة المضادة للدين المسيحي هيجت عليه أحد المتعصبين فأطلق عليه النار من مسدسه. ولكن الجرح كان بسيطاً ولم يجبر كليمنصو على لزوم السرير إلا أياماً قليلة. والشيء الغريب العجيب هو ان الفرنسيين لم يكافئوه على هذا الانتصار عندما رفضوا انتخابه لرئاسة الجمهورية. ولكن ما همّ؟ فالرجل كان قد دخل التاريخ.


الكتاب: كليمنصو صورة رجل حر


الناشر: مينجيس ـ باريس 2005


الصفحات: 191 صفحة من القطع الكبير



CLEMENCEAU




PORTRAIT D'UN HOMME LIBRE




JEAN - NOEL JEANNEN EY




MENGES - PARIS 2005




P. 191

0 Comments:

Post a Comment

<< Home