Friday, March 03, 2006

ثوماس دكونسي

بعد وفاة والده الذي كان تاجراً ميسور الحال وهو في الثامنة من العمر، قام أقارب دكونسي بتسجيله في مدرسة داخلية بمانشستر حيث تفوق في الادبين اللاتيني والإغريقي. ولكنه هرب من المدرسة في أواخر العام الدراسي وقضى ذلك الصيف مشردا في أرجاء ويلز، ونتيجة لهذا الفعل ابتعد تماما عن أهله والأصحاب الذين ترعرع معهم. أملاً بأن ينجح في استقراض مبلغ من المال من أحد البنوك، على أساس دفعه حين يتسلم ما ورث من والده بعد بلوغ سن الرشد، ذهب الى لندن حيث قضى شتاءاً تعيسا بسبب الوحدة والتشرد، وما عطف عليه سوى بعض نسوة الليل. هذه التجارب الأولية التي يصفها دكونسي بشيء من التفصيل في مذكراته ترسم صورة واقعية لشخصيته: فقد عاني كثيراً من عدم القدرة على التأقلم مع رتابة أعمال اليوم العادي، وواجه كذلك نوبات قلق حادة حين فاجأته أزمات الحياة التي لم يكن مستعداً لمواجهتها.

بعد تصالحه مع أفراد أسرته دخل لكلية روشستر في اوكسفورد، ولكن ما قُدم له من النقود ما كان كافيا. وهكذا قضى أعوام 1803-1808 منعزلا، وما اشترك في الدراسة الا بشكل متقطع. ومع ان دكونسي تفوق في نهاية المطاف، وكان سينجح بمرتبة الشرف، الا انه ترك الدراسة في وسط الاختبار النهائي خوفا من الامتحان الشفوي.

استقر دكونسي بعد ذلك في منطقة "دوف كنج" وتعرف هنالك على مجموعة من أهم الكتاب في عصره مثل وردزورث وكولرج. ثم ارتبط بعلاقة مع مرجريت سمبسون، ابنة أحد الفلاحين، فأنجبت له ابنا غير شرعي مما دفعه للزواج منها. في عام 1817، أدمن على الأفيون الذي كان قد بدء باستخدامه منذ عام 1804 حين نصحه الأطباء به لتخفيف ألام الروماتزم. مشاكل كثيرة وأمراض متعددة دفعته لاستخدام المزيد حتى تعود على تذويب أقراص الأفيون في الخمر مكونا بهذه الطريقة ما يسمى باللوديوم الذي أدمنه. ومنذ ذلك الحين، مع انه سعى للتحرر من الإدمان ونجح في تقليص الجرعات، ما استطاع أبدا التخلص من آلام الأفيون ولذته. قد يكون سبب قسوة الكثير من الكوابيس التي يذكرها في مذكراته سعيه لتقليص الجرعة التي كان يتناولها.

في سن السادسة والثلاثين نفذ ما كان لدى دكونسي من مال، فقرر احتراف الصحافة وكتب اعترافات مدمن أفيون الذي نُشر في عددين من مجلة لندن ماجازين. كان العمل ناجحا وأعيد نشره ككتاب فورا، ولكنه ما جلب للكاتب سوى القليل من المال. انتقل بعد ذلك لمدينة ادنبرة، وكتب في مجلة بلاكوود ماجازين. الأعوام التالية قضاها يعاني من أمراض كثيرة، في حالة صراع دائم مع الكابة والأفيون، متحاشيا الديانة خوفا من السجن بسبب عدم قدرته على التسديد، خصوصا لانه اضطر لإعالة أطفاله الثمانية وزوجته. وبعد موت والدته التي تركت له شيئا من المال جعله قادرا على حياة طبيعية الى درجة ما، في سن الستين، استطاع التفرغ لإعادة طبع أعماله الكثيرة في "المجموعة الكاملة."

مع ان دكونسي قد يبدو رجلا فوضويا، ألا انه في واقع الأمر آمن بالتقاليد البريطانية، بل ودافع عن أهمية دور الكنيسة في حياة الإنسان النفسية والاجتماعية في اكثر من مقال. كل من عرفه تذكر لطفه وإنسانيته وسلوكه الاجتماعي الممتاز. من المؤكد كذلك انه امتلك القوة الروحية التي دفعته للصمود طوال عمر طويل في صراع بدا ميئوسا منه.

تحتوي المجموعة الكاملة على نسخة طويلة للغاية من مذكرات مدمن أفيون بريطاني، وقد اعترف الكاتب لابنته بان النص الأقصر الذي نشره عام 1822 كان افضل بكثير. لهذا السبب، فضلنا الاعتماد على النص الأقدم في هذه الترجمة.[1] الكتاب مقسم لجزأين: الأول، "اعترافات مبدئية،" يتحدث فيه دكونسي عن تجاربه في المدرسة وفي لندن قبل استخدامه للأفيون. أما القسم الثاني: "ألام الأفيون"، فهو يحتوي على وصف أدبي مفصل للكوابيس التي عانى منها بسبب محاولته لتقليل الجرعة التي كان يستخدمها، وهو يعتبر أهم الأجزاء لأننا نشاهد فيه ظواهر العقل الباطن بوضوح لأول مرة في أدب المذكرات. لأن الكتاب يحلل الأعراض النفسية للمرض العضوي الذي عانى منه الكاتب، يصعب مقارنته باي من كتب المذكرات السابقة، وان كان هنالك شيء من الشبه بينه وبين مذكرات جون ستيورت ميل التي كُتبت بعد حوالي نصف قرن تقريباً.




من اعترافات مدمن أفيون بريطاني



من الجزء الأول:

تعرفت في لندن على فتاة سعيت جاهدا للعثور عليها فيما بعد وحزنت لعدم الاهتداء لمكان تواجدها. كانت من أولئك البؤساء الذين اضطرتهم الحياة للعيش عن طريق ممارسة الدعارة. لا أحس بالخجل ولا أجد أي داع لمثل هذا الإحساس وأنا اقر أنني عرفت في ذلك الحين الكثيرات ممن اضطرتهن الحياة لهذا الخيار التعس. لا داع لان يبتسم القارئ او يكفهر لهذا الاعتراف. فقد عشت تلك السنوات في فقر مدقع، وكانت علاقاتي مع أولئك النسوة، لهذا السبب على الأقل، بريئة للغاية. وما كنت أبداً من أولئك الذين يخافون التلوث من قرب او ملامسة أي إنسان. العكس هو الصحيح: فمنذ طفولتي، اعتززت بالتحدث ببساطة وحرية مع أي رجل، امرأة، او طفل ألقته الظروف في طريقي، وهي ممارسة تتلاءم مع طبع وصفات وصراحة رجل عشق الفلسفة واحب التأمل. عموما، لا يجدر بالمفكر التقوقع بسبب أساطير عن تعليمه ومولده وطبقته، بل ان يعتبر نفسه أنساناً شموليا يتعامل مع العالي والواطئ، والمتعلم والجاهل، والمذنب والبريء. لأنني كنت خلال تلك الفترة من المتشردين في الشوارع، ما كان هنالك بد من ان التقي بنسوة الليل اللواتي وقف بعضهن في صفي ودافعن عني حين جاء الحراس لطردي من الحديقة التي كنت سأنام فيها في واحدة من ليالي الشتاء الباردة. ولكن الفتاة التي دفعتني لذكر هذا الموضوع، وهي -آن- النبيلة، اعظم من ان توضع مع هذا الصنف من البشر. يا ليتني اعثر على الكلمات المناسبة لوصف هذه الفتاة التي عطفت علي وقدمت من العون ما أبقاني على قيد الحياة، وذلك حين تخلت عني الدنيا بأسرها. لأسابيع طويلة، تجولت مع هذه الفتاة الفقيرة التي لم تتجاوز السادسة عشر ذهاباً وإياباً عبر شارع اوكسفورد. عن طريق مسائلتها، عرفت تاريخ حياتها البسيط. كانت قصتها واحدة من تلك الحكايا التي تتكرر كثيرا، والتي يجدر بالمحسنين في لندن تقديم العون لتلافي حدوثها بحيث تصير وظيفة القانون هي حماية الضعفاء، لا معاقبة المخطئين. ولكن سيل الصدقات يتدفق عبر دروب سرية لا يعرف المحتاجون كيفية الوصول اليها. كذلك لا يمكن إنكار مدى قسوة هذا المجتمع.

على كل حال، عرفت ان هنالك جزءاً من معاناتها يمكن حله عن طريق القضاء الذي سينتقم من المخادع الذي سرق منها أغلى ما تملك. عاهدتني اكثر من مرة إنها ستفعل هذا ولكنها سوفت التنفيذ لأنها عانت كثيرا من الإحباط النفسي والخجل اللذين سدا أمامها كل سبل التحرر من وضعها المؤسف. ربما تكون كذلك قد تصورت ان اكثر القضاة حبا للعدالة لن يستطيع فعل أي شيء لعلاج معاناتها. اتفقنا في لقائنا الأخير ان نذهب في صباح اليوم التالي للقضاء، وان أتحدث باسمها، ولكن القدر ما سمح بتحقيق هذه الرغبة. أما ما فعلته لي من خدمات، فحدث ذات ليلة حين كنا نتشرد عبر شوارع اكسفورد: اذ عانيت فجأة من دوار شديد، وطلبت منها مساعدتي للوصول الى سوهو سكوير حيث جلست على مدخل أحد المنازل الذي لا اجتازه حتى الان بدون أن يعصر الامتنان قلبي. فبينما كنا نجلس فاجأني ألم شديد للغاية واحتجت فورا لمنبه فعال لإيقاظي من الغثيان الذي اشتدت حدته، وتوقعت موتي الوشيك. أثناء تلك الأزمة، قامت هذه الفتاة اليتيمة-التي ما عرفت سوى شرور هذا العالم-بمد يدها لإنقاذي. فقد هرعت راكضة عبر الشارع، وفي ما بدا لي اقل من طرفة عين عادت ومعها كاس من الخمر والتوابل الذي كان له الأثر الصحيح على معدتي الفارغة. استيقظت فورا وسرى في عروقي نشاط الحياة ودفئها. وقد دفعت الفتاة ثمن هذا الكأس مما معها حين افتقدت الكثير من ضروريات الحياة، وهذا وهي مدركة أنني لن أستطيع أن أعيد لها ثمن ما قدمت لي. كم من ليلة قضيتها وحيدا وانا أتذكر عملها الخير لي. يقولون أن لعنة الأب الغاضب تطارد الابن العاق مع مرور السنين، أتمنى لو كان لامتنان قلبي ذات القدرة، بحيث أستطيع السعي وراء تلك الفتاة الكريمة، والعثور عليها، في وكر للدعارة، او حتى في القبر، ليغفر الخالق لها خطاياها، ويهبها سلام الروح.

ليس البكاء من طباعي: فأفكاري بخصوص قضايا الإنسان اليومية تسمو فوق العاطفة. جدية طبعي، واتجاه فكري، بعد التأمل في أوضاع الناس، نحو الأمل بمستقبل افضل، كذلك جعلا البكاء صعبا علي. ومع ذلك، فلبعض الذكريات تاثير شديد على القلب: خصوصا حين أتجول في شوارع اوكسفورد تحت أضواء القناديل، واستمع للآلات الموسيقية، واتذكر تلك الأيام البائسة، آنذاك تدمع عيناي وأنا أتفكر في كيفية اختفاء تلك الفتاة: ففي ذلك المساء لم تأتِ، وما رايتها بعده أبدا.



من مدخل لآلام الأفيون:

أتذكر الان حدثا تافها اذكره لانه، برغم تفاهته، اثر كثيرا على أحلامي وخلق الهلع في روحي: ذات صباح دق رجل من أهل ماليزيا بابي. لا اعرف بالضبط ما الذي كان يفعله رجل من تلك البلاد البعيدة في قلب الجبال البريطانية، ولكنه كما بدا لي كان متجها الى ساحل يبعد حوالي أربعين ميلا.

الخادمة التي فتحت له الباب كانت مراهقة قضت جل أيامها بين الجبال بدون ان ترى أبداً الثياب الآسيوية التي أصابتها رؤيتها بالذهول. لأنها ما عرفت من لغته اكثر مما عرف من لغتها، ما كان ممكنا لهما تبادل أي أفكار، لو امتلكا القدرة على النشاط العقلي. في هذه الورطة، تذكرت الفتاة سمعتي كرجل متبحر في العلوم، وتصورت أنني ضليع بلغة الماليز وجاءت لتبلغني ان هنالك عفريت تتوقع ان أحرر البيت من شره. حين وصلت ألي لبوابة بعد فترة، فوجئت بما رأيت: ففي طرف المطبخ، وقف الماليزي، مرتديا البنطال الواسع والعمامة، قريبا من الفتاة لدرجة ضايقتها، وان كان الخوف يمنعها من الاعتراض. وما كان هنالك سوى الفروق بين وجه الفتاة الأبيض وقوامها المنتصب الحر، وبين الجلد الأسود والشفة النحيلة والحركات الخانعة الذليلة للرجل الماليزي. فقد انحنى بخشوع لحظة رؤيتي وتحدث بلغة لم اعرف عنها أي شيء. رددت عليه باللغة الإغريقية الني لم يفهمها، وان كان الآخرين جميعا قد تصوروا أنني حادثته بلغته. بعد ان استلقى على الأرض قرابة الساعة مضى في طريقه. قبل رحيله، قدمت له شيئاً من الأفيون، متصورا انه كرجل شرقي سيقدر هذه الهدية . ولكنني فوجئت حين رايته يتناول كل ما قدمت له دفعة واحدة. كانت الجرعة كافية لقتل ثلاث خيول وخشيت على حياة الرجل. ولكن، ما الذي كان بإمكاني فعله؟ قدمت له الأفيون عطفا على وحدته بعد ان تصورت انه قد سافر على قدمه من لندن وقضى في الطريق أسابيع بدون الحديث مع أي إنسان. قررت احترام قوانين الكرم، وسمحت للرجل بالذهاب بدون ان اقبض عليه واغرق معدته بسائل مطهر. وهكذا مضى الرجل في طريقه، وشيئا فشيئا تبخر قلقي بعد ان مرت الأيام بدون ان اسمع عن العثور على جثة رجل غريب في الحقول. اعتقد الان انه كان قد تعود على تناول الأفيون، وانني فعلا ساعدته في قضاء ليلة سعيدة حرا من آلام الوحدة والسفر.

اذكر هذا الحدث لان صورة هذا الرجل التصقت بخيالي وبدت في أحلامي أسوء بكثير مما كان الأمر عليه في الواقع.



من "آلام الأفيون:"

اضعف الأفيون نشاطي العقلي كثيراً. باستثناء البؤس والألم، كنت فعلا في حالة سبات دائم. لم استطع كتابة رسالة، وحتى خط بضع سطور للرد على ما جاءني في البريد كان اكثر مما أستطيع فعله، وما تحقق الا بعد مرور أسابيع، وأحياناً شهور. بدون مساعدة زوجتي، كل القوائم التي دُفعت، او ستدفع، كانت ستضيع ويذهب معها أي أمل في تخطيط سليم لاقتصادي المنزلي. لا أود قول المزيد بهذا الخصوص، وان كانت هذه المعاناة لا تقل سوء عن باقي الأعراض الني يعانيها المدمن، لأنها تدل على ضعفه، ولان تسويف عمل اليوم للغد بشكل دائم سيقلقه ويغضب ضميره. ومن الجدير بالذكر ان المدمن لا يفقد أحاسيسه وآماله، بل انه قد يحلم ويرغب اكثر من غيره من الناس بتحقيق ما يؤمن بإمكانية تحقيقه من طموحاته، ولكنه يشعر بالمسئولية بدون القدرة على التنفيذ. فالكوابيس تُثقل روحه حتى يصبح عاجزاً مثل رجل أقعده المرض على السرير وهو يتطلع بعجز للشر الذي ينتهك روحه وأرواح كل من يحب. سيلعن الأصفاد التي تقيده مرارا، وسيتمنى الاستيقاظ والحركة، ولكنه ضعيف كطفل يرضع، ولا يستطيع حتى السعي وراء ما يريد.

أريد الان الانتقال للهدف الأساسي من هذه المذكرات، وهو وصف الأحلام الني شاهدتها بعد ان سقطت في شباك الإدمان، لان تلك الكوابيس كانت أسوء ما عانيت من أعراض.

اول التغييرات المهمة التي أحسست بها كانت نتيجة لطريقة خاصة في الرؤية يتميز بها الأطفال: يعلم القارئ ان جلهم يتصورون رؤية أنواع عديدة من الأشباح في الظلام. بينما لا يتحكم بعضهم بهذه القدرة، يستطيع الباقون جلب او مناداة الأشباح التي يرونها، او، كما قال لي طفل حين استجوبته بخصوص هذا الموضوع: “أستطيع ان ادفعهم للذهاب حين ارغب بذلك، ولكنهم أحياناً يأتون حين لا أريد حضورهم." في عام 1887، أتعبتني هذه الخيالات كثيرا: فكلما استلقيت في سريري، عبرت أمام ناظريّ جموع عظيمة من الناس في حالة حداد، ومرت بذهني قصص أسطورية تسبق تاريخ الحضارات، وبلا نهاية. في ذات الوقت، حدثت تغييرات موازية في ما رأيت من أحلام، وكأن مسرحا عظيما قد فتح أبوابه في عقلي، وصرت أتطلع كل ليلة لمشاهد عجيبة. وقد كانت المميزات الأربع الأساسية لما شاهدت كما يلي:

1-كلما ازدادت قدرة العين على الابتكار تقاربت حالتا اليقظة والحلم لدرجة ان كل ما فكرت به في الظلام تحول لحقيقة واقعة في أحلامي، حتى صرت أخاف التفكير في حد ذاته. كما حول ميداس كل ما لمسته يداه الى ذهب، مما أدى في نهاية الأمر الى تدمير حياته، صار لكل خواطري كذلك صور وخيالات رُسمت في الأحلام مُجسمة لدرجة آلمتني.

2-صاحب كل ما رايته في أحلامي قلق واكتئاب شديدان لدرجة لا يمكن للكلمات وصفها. بدا وكأنني كل ليلة انحدر لهوايا سحيقة مظلمة، وكل هاوية تليها هاوية اعمق واكثر بعدا عن النور، مما جعل العودة للسطح كل ساعة اكثر صعوبة. حتى الاستيقاظ لم يبد لي كصعود. ما صاحب هذه المشاهد الغريبة من بؤس نفسي كان ظلاماً مدقعاً، وكأنه انتحار إنسان يأس تماما من الحياة، شعور يصعب للكلمات التعبير عنه.

3-إحساسي بالزمان والمكان تغير: رأيت مبان هائلة وحقول شاسعة لا يمكن للعين المجردة رؤيتها. توسعت المساحة التي اشاهدها حتى ما عاد لها حدود، ولكن هذا ما ضايقني بقدر تغير إحساسي بالزمن. بدا لي وكأنني أعيش سبعين او ثمانين عاما في ليلة واحدة وأحسست بالمشاعر المتقلبة التي تصاحب مرور مثل هذه الفترة الزمانية الطويلة في ساعات: من النشوة المفرطة الى يأس الفناء.

4- اقل أحداث الطفولة أهمية، مشاهد نسيتها منذ زمن بعيد، عادت واضحة للذاكرة وكأنها قد حدثت البارحة. ما كان ممكنا لي تذكر مثل هذه الأحداث في ساعات الوعي، ولكنني شاهدتها في حالات ما بين النوم واليقظة محاطة بذات المشاعر القديمة المتلاشية التي أحسست بها حين حدثت لأول مرة. ذكرت إحدى القريبات لي أنها، ساعة سقوطها في نهر، وبقاؤها لوهلة على حافة الموت، شاهدت في تلك اللحظات حياتها بكاملها، بكل ما مر بها من أحداث وكأنها ترى كل شيء في مرآة، وكان لديها كذلك القدرة على رؤية العلاقات بين كل الأجزاء. من تجاربي مع الأفيون، تعلمت ان "كتاب القدر" الذي تتحدث عنه الكتب السماوية موجود فعلا في عقل كل فرد. لا أؤمن البتة بوجود أي نسيان حقيقي لما يمر بالإنسان من تجارب. يمكن لآلاف الأحداث ان تتداخل بحيث يعمل أي منها كحجاب بين ما يفكر به العقل هذه الساعة، وما يحفظ في طياته من ذكريات. ولكن حدوث أحداث تشبه ما حدث في السابق سيهتك الحجاب ويفتح الصفحات القديمة، جالبا للذاكرة الأحداث التي يتصور المرء انه نساها. وعلى كل حال، سواء أكانت تلك الأحداث واضحة او خفية، ستبقى الكتابة السرية موجودة مثل النجوم التي تختفي في ضوء النهار بحيث لا تراها العين لان أشعة الشمس قد طغت عليها- ثم تعود للظهور في المساء.

بعد ذكر هذه الحقائق الأربع التي تميز أحلامي من أحلام الأصحاء، سأذكر مثالا عن الحقيقة الأولى، ثم سأصف بعض الأمثلة الأخرى، حسب وقت رؤيتي لها، او تأثيرها علي.

دائما استمتعت بقراءة كتب ليفي التي فضلتها على كتابات غيره من المؤرخين، وحتى هذه اللحظة، بيدو لي مجلس القيادة الروماني اكثر سطوة وتعبيرا عن رغبات الشعب من أي ملك، سلطان، او حاكم. كذلك، اهتممت كثيرا بتاريخ الحروب الأهلية البريطانية لان الشخصيات التي اشتركت فيها تميزت بسمو النفس والخلق لدرجة لا مثيل لها في هذا الزمان. كلا هذين النوعين من القراءة أثرا كثيرا على فكري وتحولا الان الى مادة لأحلامي. أحيان كثيرة رأيت، مرسوما في الظلام، مجموعة من السيدات، في ما بدا كعيد او احتفال كبير. سمعت من الكلام ما دلني على أنهن فعلا سيدات من عصر الملك تشارلز الأول. كن بنات وزوجات أصدقاء السلام الذين جلسوا وتناولوا الطعام سويا وارتبطوا بالزواج والدم، ولكنهم، بعد شهر أغسطس عام 1642، ما ابتسموا لبعضهم البعض أبدا، وما تقابلوا الا في ميادين الحرب: حيث أغرقت بحار الدم الماضي المشرق. ومع ان السيدات رقصن أمامي، الا انني عرفت أنهن كن في المقابر منذ حوالي مأتي عام. ثم، وفي اقل من طرفة عين، اختفى هذا المشهد، وسمعت أصوات الزعماء الرومانيين وهم يتناقشون في أمور الدولة بجدية مخيفة.

منذ أعوام، حين كنت ازور متاحف روما، ابلغني السيد كولرج بوجود لوحات رسمها الفنان بيرانس واسماها "أحلامي" لانه صور فيها بعض ما رآه أثناء معاناته من حمى شديدة. بعض تلك الصور احتوت على آلات حربية ضخمة، مثل المنجنيق والعجلات والحبال والآلات الرافعة وغيرها مما يدل على شدة البأس الذي يدمر كل ما وقف في طريقه. في طرف الصورة الأسفل، هنالك سلم يقف فوقه الرسام، وما عاد أمامه سوى إلقاء نفسه الى الأعماق الفاغرة الأشداق لابتلاعه. فوقه هنالك صورة لسلم آخر، أتخر، وفي آخر سلمه من كل منها يقف الرسام في ذات الوضع حتى يختفي السلم في الظلام في نهاية الأمر. ذات التصوير للقوة يبدو في أحلامي. في الفترة الأولى من مرضي، شاهدت فعلا صوراً لمدن كبيرة ومبان ضخمة ما رأتها العين من قبل الا في أحلام الشعراء-وبعضهم مثل هومر وشادويل قد استخدموا الأفيون بالفعل.

بعد المدن، حلمت بالبحيرات: مساحات شاسعة من الماء أخافتني لأنني تصورت ان عقلي قد أصابه المس. خلال تلك الفترة عانيت من صداع شديد-مع أنني لم اعرف معنى الصداع سابقا، لدرجة أنني كنت أقول عن رأسي ما قاله السيد اوكسفورد عن معدته: أنها ستبقى بعد فناء أعضائه الأخرى. ولكن هذا الصداع خف أخيرا، وان كنت لا أزال مؤمنا بأنه كان عارضا لمرض خطير للغاية نجوت منه بأعجوبة.

حدث بعد ذلك تغير على ما كنت أشاهد: فبدلا من هدوء البحيرات وجمالها، رأيت الان بحارا ومحيطات. ثم بدأت أعاني من رؤية غريبة أخافتني كثيرا، اسميها طغيان الوجه البشري. ففجأة، صرت أرى وجوه البشر مرسومة على المحيط، وكان المياه قد غُطت بآلاف الوجوه المتطلعة للسماء: متوسلة غاضبة يائسة بائسة تنبثق الى الأعلى بينما تقلب قلبي وصعد وهبط مع مياه المحيط العاصفة.



مايو: 1818

بقي الماليزي عدوا لدوداً لشهور طويلة. فقد ارتسمت أمام عيني صور آسيوية كل ليلة بسببه. لا اعرف مشاعر الآخرين بخصوص هذه النقطة: ولكني لو اضطررت للانتقال من بريطانيا للصين وعشت بين طقوسها وعاداتها ومشاهدها لجننت. أسباب رعبي عديدة، واعتقد ان البعض قد أحسوا بها: فجنوب آسيا مركز لخيالات وأفكار رهيبة. بالطبع، الكثير من الناس يبجلون ذلك المكان كمركز للحضارات القديمة. ولكن وحشية طقوس وممارسات الديانات العتيقة، ومجرد الإحساس بثقل آلاف السنوات المتراكمة على المؤسسات والتاريخ والعقائد، تطغى على إحساس أي إنسان بذاته. الرجل البريطاني، الذي لا يعرف الكثير عن آسيا، سيذهل حين يلاحظ مدى الكراهية المتجسدة في نظام الطبقات الذي يمنع البشر من الاتصال ببعضهم البعض لقرون طويلة. اعتقد كذلك ان الإنسان إنما هو عبارة عن عشبة حقل في تلك الأماكن المكتظة بالسكان. ولكن اكثر ما يرعبني هو حاجز الكراهية العميق الذي يفصلنا عن أولئك الناس. معاشرة المجانين والحياة في الغابات اسهل بالنسبة لي من السكن في تلك البلاد. عانيت في أحلامي من صور التعذيب الأسطوري التي تجسدت لناظري، ورأيت كل الكائنات والطيور، الوحوش والزواحف والأشجار الموجودة في الصين. تطلعت لي القرود بسخرية، وصرخ بي الببغاء. ضعت لشهور في متاهات ضخمة، ورقدت سجينا في غرف سرية. كنت أحيانا الصنم المعبود، القسيس المبجل، ثم صرت ضحية تقدم للآلهة في الأعياد. هربت من لعنة الأرباب الصينية عبر أدغال آسيا، وفي الأطراف، شاهدت آلهة مصر القديمة: إيزيس وأوزوريس، اللذين شنعاني قائلين أنني ارتكبت اكثر الأعمال بشاعة. ثم دُفنتُ لآلاف الأعوام في قبور صخرية تكمن في قلب الأهرامات ورقدت بجوار المومياء. قبلني التمساح وانا ارقد وفوقي الحشرات والطين والأعشاب تحيط بي.

أذهلتني هذه الأحلام لدرجة ان الدهشة آخذت مكان الخوف. ثم عاد الإحساس وبت مفعما بالتقزز والكراهية مما رأيت. وراء كل صورة تهديد او عقوبة، او في ظلام المعتقل، كان هنالك إحساس بالديمومة والأبدية أشعرني باني حبيس في سجن لا مخرج منه. في هذه الأحلام فحسب، شاهدت الرعب الجسدي. فكل ما سبقها كان رعبا روحيا. اما هنا، فالممثلون كانوا طيورا مشوهة او ثعابين وحشية وتماسيح والأخير أرعبني اكثر من أي من الكائنات الأخرى. فقد اضطررت للحياة معه لقرون طويلة. أحياناً نجحت في الهروب الى منازل صينية، ولكن سرعان ما تحولت أقدام الطاولات والأسرة الى كائنات حية. ثم ظهر راس التمساح البغيض، وتكاثرت عيناه الباردتان الى الاف الأعين المحدقة. أتذكر انني استيقظت مرة وشاهدت أطفالي يقفون بجوار سريري وهم يرتدون أحذيتهم الملونة، وثيابهم الجديدة، استعدادا للخروج. أذهلني الفرق بين قبح التمساح الملعون والوحوش الأخرى التي طاردتني في أحلامي، ومنظر براءة الأطفال.



حزيران، 1819:

هنالك ثلاث أسباب تجعل التفكر بالموت في فصل الصيف اكثر عمقا وعاطفة من أي فصل آخر: أول هذه الأسباب هو ان السماء تصير أتعلى واكثر بعدا بينما تتراكم السحب في الأفق وتبدو اكثر ضخامة من أي فصل آخر في بريطانيا. ثانيا، ألوان الشمس ساعة المغيب ترمز لفكرة الخلود. أخيرا، ثراء الحياة وجمالها في الصيف تدفع الإنسان للتفكير بالعكس: بجليد القبر الأزلي. من الممكن ملاحظة ان الأفكار التي تناقض بعضها البعض ترتبط بشكل ما في العقل، بحيث يجلب التفكر في واحدة الأخرى. لهذه الأسباب، لا أستطيع الخلاص من التفكر في العدم بينما تمضي أيام الصيف، ويظهر تأثير هذا في أحلامي. ربما كان هنالك طبع سابق يدفعني للتفكر بمثل هذه المواضيع، ولكن الإدمان قواه حتى صار كابوسا لا أري منه خلاصا.

تصورت صباح يوم الأحد الباكر في شهر مايو: كنت واقفا على بوابة منزلي وأمامي المشهد الذي كنت أراه كل يوم وان كان مكبرا بالطريقة الني تبدو بها الأشياء في الأحلام. كان هنالك ذات الجبال والسهول، ولكن الجبل كان اكثر علوا وبينه وبين الوادي مساحات شاسعة. الورود البيضاء غطت على كل شيء باستثناء المقابر الساكنة. تأملت المنظر وفكرت: "هذا المشهد يحتاج لضوء الشمس، لانه يوم القيامة حين سيعود الأموات للحياة وتأخذ العدالة السماوية مجراها. سأتجول الان أنسى كل همومي لان الطقس بارد وهادئ، والتلال عالية تبسق للسماء. ببرد الندا سأمسح الحمى من على جبيني." ثم استدرت لافتح البوابة ورأيت في يساري مشهدا اخر. كان المنظر هذه المرة شرقيا: شاهدت في الأفق صور القبب والمنارات وبدا وكأنني في القدس التي رأيت صورها في طفولتي. قريبا مني على متن صخرة جلست امرأة-كانت آن-وتطلعت لي بصمت، حتى قلت لها: "لقد وجدتك أخيرا." صمتّ منتظرا أجابتها ولكنها ما نبست بحرف. ما تغير وجهها عما رأيت آخر مرة البتة. سبعة عشر عاماً مرت مذ شاهدتها وقبلتها بينما كانت الدموع تهطل من عينيها. ما كان هنالك أية دموع الآن، وبدت الفتاة اكثر جمالا من أي وقت مضى، وكأنها لم تكبر أبداً. كانت هادئة، ولكنها نظرتها كانت جادة للغاية. فجأة، شاهدت الضباب يتراكم بيننا، ثم ذوى كل شيء وجاء ظلام قاتم. وفي لحظة، كنت بعيدا عن الجبال في شارع اوكسفورد أتجول مع الفتاة وكلانا في سن الشباب اليافع.

حين استيقظت، خشيت الا أستطيع النوم أبداً بعد هذا اليوم.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home